حاشية على جريمة في عمّان

حاشية على جريمة في عمّان

12 نوفمبر 2018
+ الخط -
أسوأ بواعث الخطورة في جريمة اختطاف مجهولين أمين عام مؤسسة مؤمنون بلا حدود، يونس قنديل، وتعذيبِه و"التّعليم" عليه، وترويعِه ليلا، في عمّان، أنها من لونٍ مستجدٍّ في المجتمع الأردني، في ذرائعها وأغراضها، فقد أراد مقترفوها تعنيف الرجل، بكيفيّةٍ شنيعةٍ، لأن المؤسّسة التي يتولّى موقعَه فيها كانت تعتزم تنظيم مؤتمرٍ في العاصمة الأردنية (بالتعاون مع مركزٍ اسمُه "تنوير للتوعية الفكرية") رأى نائبان أردنيان إنه يسيء إلى الذات الإلهية، ثم منعت وزارة الداخلية انعقاده، وأعقبت ذلك حملةُ تأثيمٍ لـ"مؤمنون بلا حدود"، الناشطة في ترويج خطابٍ عن الإسلام يحصُره في أبعاد أخلاقيةٍ وروحية، ويحارب نزوع تشكيلاتٍ إسلاميةٍ إلى طموحات سياسية. وقد أقامت أبوظبي، في عام 2013، هذه المؤسّسة، لتكون من أذرعها "الفكرية" في إسناد الثورة المضادّة التي تتولّى الإمارات قيادتَها في المنطقة العربية. ولا يعني هذا التعريف، الموجز، بوظائف "مؤمنون بلا حدود" هذه، قبولا بمنع ذلك المؤتمر، فليس مؤكّدا أن إساءةً للخالق كانت ستحدُث فيه. ومعروفةٌ مواطنُ اصطفاف هذه المؤسّسة، ذات الصوت العالي ضد الإرهاب والتشدّد، (وهذه ليست ميزةً خاصةً بها)، والبكماء أمام إرهاب سلطاتٍ عربيةٍ تُداهنها، وتُمالئ ثرثراتها عن تجديد الخطاب الديني، بزعم التنوير الذي أساءت إليه "مؤمنون بلا حدود" (وغيرها) كثيرا جدّا، عندما حشرت هذا المفهوم في الطخّ على الاستبداد الديني وحده، وباركت الاستبداد السياسي وجرائمَه بالخرس بشأنه، ومن ذلك أن أيا من جهابذة التنوير، الموظفين في هذه المؤسّسة، لم يجرؤ على إدانة جريمة اغتيال الأجهزة السعودية الزميل جمال خاشقجي. 

من ضفّةٍ لا تقبض على محمل الجد لعبة التنوير المجوّفة التي تؤدّيها "مؤمنون بلا حدود"، لا يتلعثم صاحب هذه الكلمات في رفض مسوغّات السلطة في الأردن منع ذلك المؤتمر، وفي استفظاعه ما تعرّض له يونس قنديل، وفي المطالبة بالقبض على مرتكبي الفعلة المستنكَرة، وإجراء العقوبات الغليظة التي يستحقّونها. وهي جريمةٌ تبعثُ على القلق، لتأشيرها إلى وجود فئةٍ في المجتمع الأردني، تُنيط بنفسِها مسؤولية محاسبة الناس على أفكارهم، وقنديل (الإخواني السابق) موحّدٌ بالله، وصاحب رأيٍ لا يجرّمه القانون. وتكشف الحادثة، خصوصا إذا ما أضيفت إلى قتل الكاتب ناهض حتّر، قبل عامين، أن ثمّة نزوعا يتّسع في المجتمع الأردني، مقلقا في تشدّده، وفي تبخيس أصحابه هيبةَ الدولة. وقناعةً بأن تمكين الدولة في حماية المجتمع من شرور هؤلاء، أيا كانوا، كان يحسُن بقنديل، ومتضامنين كثيرين معه، أن يلحّوا على وجوب إسراع أجهزة الدولة في كشفهم، وإعمال القانون فيهم، بدل توجيه اتهاماتٍ غير مسنودةٍ بأي قرينةٍ إلى جماعة الإخوان المسلمين التي دانت الواقعة، في بيانٍ معلن.
وحدها التحقيقاتُ هي التي تعيّن ما إذا كان الملثّمون الذي اقترفوا الجريمة إخوانيين أم غير إخوانيين. وإذا استطاب كثيرون مشابَهتها بقتل ناهض حتّر، فإنه يحسُن بهؤلاء أن يتذكّروا أن القاتل لم يكن إخوانيا. أما وأن السيدة، أحد النائبيْن اللذيْن ارتابا من المؤتمر إخوانيّة الهوى، فما قامت به يبقى موضع انتقادٍ، وتنديدٍ إذا أردنا، غير أنه لا يسوق إلى اتّهامها بمسؤولية عن إيذاء قنديل. وكان في وُسع وزارة الداخلية ألا تستجيب لمطلب منع المؤتمر الذي كان مستحسنا لو تواضع منظمّوه قليلا، فلا يختاروا عنوانا فيه يخدش وجدان المجتمع، ليأخذونا إلى جدلٍ لا ينتهي إلى شيءٍ عن حرية الرأي، تكسب بعدَه صورَتها ضحيةً تحتاج تضامنا. عدا عن أن "مؤمنون بلا حدود" مطالبةٌ، قبل هذه الواقعة وبعدها، بالكفّ عن تصنيف العرب ظلاميين وتنويريين، وعن اعتبار ناسِها من الأخيرين، فهذه قصةٌ ملعوبةٌ وكاريكاتيرية. ويونس قنديل نفسُه في حاجةٍ إلى أن يعرف أن استثمار إيذائِه المُدان للتعريض بالإخوان المسلمين (وحدهم!)، في تصريحٍ تلفزيوني، وهو في المستشفى، كان تزيّدا منه. ويلزُمه أن يعرف أن لكل مقامٍ مقال، وأن يوسف القرضاوي الذي جاء على تولّي خليفةٍ له رئاسة اتحاد علماء المسلمين كثيرا ما انتقد "الإخوان"، وأنه أكثر انسجاما، في موقفه، من سلوك قنديل نفسه، عندما لم ينتخب محمد مرسي لرئاسة مصر، بل المنشقّ عن "الإخوان"، عبد المنعم أبو الفتوح، المختطَف في سجون عبد الفتاح السيسي حاليا، والذي لم يستحقّ من "مؤمنون بلا حدود" أي مفردة تضامن.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.