صوتان في "نوبل"

صوتان في "نوبل"

09 أكتوبر 2018

ناديا مراد وجورج سميث (موقع جائزة نوبل)

+ الخط -
تهنئة العراقية الكردية الإيزيدية، ناديا مراد (25 عاما)، على منحها نصف جائزة نوبل للسلام، واجبةٌ ومستحقةٌ، فهو إنصافٌ لها، وتقديرٌ لشعبها الذي ذاق ويلاتٍ مشهودة. ولمّا كانت هذه الشابّة قد تعرّضت، كما كثيرات غيرها من الإيزيديات، إلى استغلال جنسي وعمليات اغتصابٍ مريعة، وبيع وسبي وخطف، وما يشابه هذه الجرائم من شناعات، ارتكبتها عصابات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في قضاء سنجار في محافظة نينوى في العراق. ولمّا نشطت ناديا مراد في شرح صنوف الامتهان الذي أذاقتها هذه العصابات لبني جلدتها وقوميتها وطائفتها (550 ألف نسمة في العراق)، بعد وصولها إلى ألمانيا، لكل العالم، فإن من شأن الجائزة أن تُضاعف الانتباه إلى محنة النساء في مختلف أركان الأرض، ممن انتُهكن بالعسف الجنسي، سيما وأن شريك مراد في الجائزة، الكونغولي، دينيس مكويغي، طبيب ناشط في معالجة ضحايا الاغتصاب في بلاده وجوارها، وفي الوسع أن يقال إن اللجنة النرويجية المنوط بها منح الجائزة العتيدة وفّقت، إلى حد كبير، في اختيارها هذا العام. والمتوقّع أن تستمر العراقية الإيزيدية في نشاطها الإنساني والإعلامي والحقوقي العام، في سبيل مساعدة النساء في العالم على التحرّر من أوضاعٍ شائنة يتعرّضن لها في غير أرضٍ في العالم، ذلك أن تجربتها المريرة، وهي التي فقدت ستة من أشقائها ووالدتها في استباحة "داعش" بلدتها في أغسطس/ آب 2014، تُيسّر لها أهليةً خاصةً في الإضاءة على عذابات المرأة في خرائط الآلام البشرية.
أما التذكير بزيارة ناديا مراد إسرائيل في يوليو/ تموز العام الماضي فلا يجوز أن يُحسب انتقاصا من استحقاقها الجائزة، بل على العكس، إنه يُبلغ هذه الشابة، عديمة الخبرة بالسياسة، أن ما أقدمت عليه، وإنْ في سياق مهمّتها سفيرةً للأمم المتحدة للنيات الحسنة، لم يخدم أبدا قضية شعبها، بل سمح للدولة العبرية الغازية استخدام هذه القضية دعائيا، وإظهار نفسِها واحدةً من حماة الأقليات في العالم، فيما أرشيفها الأسود ثقيلٌ بوقائع العدوان والنهب والاستباحة والتمويت والاغتصاب، وسلسلة طويلة من الجرائم التي لم تتوقف منذ قامت هذه الدولة على تهجير شعب فلسطين من أرضه، وناديا مراد تعرف جيدا جسامة التهجير والنهب والطرد. وإذا كانت، قبل نصف جائزة نوبل للسلام لم تر في حديثها في الكنيست أن دولة إسرائيل التي واجهت كارثة الهولوكست ستظهر تفهّما لجرائم "داعش" ضد الشعب الإيزيدي، فالمرجوّ بعد الجائزة أن تتيقن أكثر مما تقول، وتتفحّص خطواتِها بشكل آخر، لكي لا تورّط نفسها في استخدامٍ إسرائيلي مكشوفٍ لها، ولا في التعامي عن النازلة التي أحدثتها دولة الاحتلال في الشعب الفلسطيني الذي لم تُسمع من الناشطة المستجدّة كلمةٌ بشأنه.
لم يكن التذكير بما أقدمت عليه ناديا مراد، أي قبولها ضيافة إسرائيل لها، حملا للسلّم بالعرض، بل كان ضروريا. وضاعف من وجوبه أن العالم الأميركي، جورج سميث، حاز شيئا من جائزة نوبل في الكيمياء (مُنح وشريك أميركي نصفها، وحاز النصف الثاني عالم بريطاني) في موسم هذا العام أيضا، لم يمتنع فقط عن زيارة إسرائيل، وإنما نشط في الدعوة إلى مقاطعة مؤسّساتها، وفي مناهضتها ونقد عنصريتها، في مقالاتٍ ومحاضراتٍ وتظاهرات غير قليلة، في مناسباتٍ عديدة. وبسببٍ من همّته في هذا كله، استقبلت الصحافة الإسرائيلية نيله الجائزة بتبرّم واستهجانٍ كثيريْن، سيما وأن حماس الرجل شديدٌ في رفض إسرائيل، وهو الذي اعتبر حركة مقاطعتها حركة عدالةٍ من أجل المضطهدين والمحرومين اجتماعيا، وقد ناوأته في الولايات المتحدة وأوروبا اللوبيّات الصهيونية الداعمة لدولة الاحتلال. ومن حزمةٍ وفيرةٍ من مواقف هذا العالِم النظيف أنه جاء كثيرا على ما ترتكبه إسرائيل من ممارساتٍ عنصرية، وأنه وصف وعد قيام هذه الدولة نفسِها بأنه الجزء الأكثر خجلا في التاريخ اليهودي، ورأى في وعد بلفور "فصلا خسيسا في الظلم الاستعماري والاستيطاني".
المصادفة وحدها ما جمعت نيل ناديا مراد نصف "نوبل للسلام" مع نيل الأميركي جورج سميث ربعها في الكيمياء في موسم هذا العام، فأخذتنا إلى هذه الإضاءة الموجزة على المسافة بينهما.

دلالات

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.