عقوبة اليوم الأخير

عقوبة اليوم الأخير

05 أكتوبر 2018
+ الخط -
بعد انتقالنا إلى مكان جديد، ذهبت مع طفلي الذي لم يتجاوز عمره الثلاث سنوات إلى البيت الذي كنّا نسمّيه مجازاً "بيتنا"، ثم انتقلنا وتركناه إلى "بيتنا الجديد". بحثت هناك عن أغراض ثانوية نسيناها، وما لفت انتباهي أن طفلي، وبعد مرور دقيقتين على وجودنا هناك، بدأ باللعب على "الدكة" أمام البيت، ثم اتجه إلى المزرعة، كعادته في السابق؛ وكأنه ظنّ أنّنا كنّا في زيارة مؤقتة، وعدنا إلى "بيتنا" الأساسي.
البيت هو براءتنا الأولى التي لن تعود، ولا فرق إن كان قصراً منيفاً أو بيتاً قروياً بسيطاً، إنه المكان الذي نشأنا فيه، واحتمينا به بوقوفنا أمام بابه في خلافاتنا مع أولاد الجيران، وتعرّضنا فيه لعقوباتٍ جماعية من الوالدين، ثم يأتي بعده الحي الأول الذي صنعنا من جادّته ملعباً لكرة القدم، والمدرسة الابتدائية التي تعلّمنا فيها القراءة والكتابة، البيت هو الوطن الصغير المنيع في وطن كبير لا يتحدث إلا عن سيادته الوطنية المثقوبة.
أكثر ما يؤلم في النزوح هو "تعدّد البيوت"، فلو أجرى كل واحد منا اليوم عمليةً حسابيةً بسيطة لعدد الأماكن و"البيوت" التي سكن فيها مع إهمال أو نسيان الأماكن العابرة التي مرّرنا فيها في رحلة النزوح عند أقربائنا ومعارفنا، والتي لم تتجاوز إقامتنا فيها الشهر لتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، وهذا الرقم هو عدد العقوبات والنقمات التي ذقناها.
كلما استأجرنا بيتاً كنت أفكر بمشقة اليوم الذي سنغادره فيه إلى بيت آخر، إنها عملية جمع الأغراض، عملية شاقة ومعقدة، إنها انتظار مجاهيل جديدة، والانتقال إلى مكان جديد كلياً بجيرانه، وشوارعه.
البيوت المتنقلة هذه تعاقبنا على طريقتها الخاصة، تعاملنا المؤقت والمتقشّف معها، ومقارنتنا الدائمة لها ببيوتنا التي تركناها مرغمين، والتي تخرج فيها خاسرة دائماً، علاوة على أنّنا نُذكّرها كل يوم بأن أجرتها تلتهم نصف معاشاتنا.
نحن نتعامل مع كل واحدٍ من بيوتنا المتعددة والمتنقلة بالحد الأدنى من الودّ والحميمية، ولا نبالغ في شراء الأثاث المناسب لها، ولا نحتفي كثيراً بالديكور والمظهر الخارجي، فإن لم ننتقل بعد عدة أشهر إلى بيت جديد، سوف ننتقل بعد سنة أو سنتين على الأكثر.
تحبس هذه الأماكن المؤقتة ردها وتنتظر "المكان والزمان المناسبين"، إنها الدقائق الأخيرة لوجودنا بين جدرانها، وخصوصا عندما نكدس أغراضنا في سيارة النقل، ثم تنطلق غير آبهة بمشاعرنا وذكرياتنا التي تركناها خلفنا، وعند اهتزازها يميناً ويساراً يحضر شريط النزوح، وكل الأماكن التي انتقلنا إليها، وكأننا في أول يوم نزوح، ثم يسألك السائق: متى ستعودون إلى سوريا؟
أولادنا الذين يكبرون أمام أعيننا كيف سيتذكرون هذه الأماكن؟ كلها أم بعضها، أم الأسوأ من بينها؟ والأقسى من ذلك، هل سيتذكرون عدد المرات التي تعرّضوا فيها معنا لعقوبة "اليوم الأخير" في كل مكان حملناهم معنا، وتركناه؟!
05EEE2E6-26E4-45A5-961C-DB4D99A9E40B
05EEE2E6-26E4-45A5-961C-DB4D99A9E40B
محمود إبراهيم الحسن (سورية)
محمود إبراهيم الحسن (سورية)