سكّانُ الهامش وأهله

سكّانُ الهامش وأهله

02 أكتوبر 2018

لا تزال الحياة فاكهة (فان غوغ)

+ الخط -
كل ما هو مقيم في الهامش، أو أنه من طبيعته، مغرٍ ولا بدّ لأهل الكتابة والإبداع، أدباء وفلاسفة ورسامين، فماذا لو كان الكاتب والفنان هما نفساهما من أهل ذاك الهامش وسكّانه؟
خطّ رفيع جدا يفصل ما بين العبقرة والجنون، الحكمة والخرف، لطالما رسمته حيواتُ عددٍ كبير من العظماء الذين أنتجوا أهمّ الأعمال الأدبية والفنية والفلسفية، فيما كانت أرواحهم وأجسادهم وعقولهم غارقةً في مكابدة المرض العقلي والنفسي، ومعرّضةً لسموم الأدوية والعزل والعلاج بالصدمات الكهربائية.
جيرار دو نرفال، غي دو موباسان، فريديريك نيتشه، فان غوغ، أنطونان آرتو، فريدريش هولدرلن، جيروم بوش، آلبريخت دورِر، جان جاك روسو، لوتريامون، ماركيز دو ساد، غويا، إدغار ألان بو، كافكا، ستريندبرغ... القائمة تطول وتطول، حتى ليتساءل المتابع آثار كل هؤلاء إن كان الجنون شرطا لإنتاج كل هذا الكمال، أم أن العبقرة أو الذكاء الخارق هما ما يقودان إلى الجنون، وقد تكشّفت المعرفة عمّا لا يمكن احتماله من عبث هذي الحياة ولا جدواها؟ "قد تستدعي البنية الأساسية للحياة ألا نعرفها حقّ معرفة من دون أن نهلك"، قال نيتشه، أما العالم، فهو "قصة يرويها أحمق، ملأى بالضجيج والغضب، ولا تعني شيئا".
يدرك كل من يتعاطى هذا المجال أن الإبداع الحقيقي عملٌ جبّار، وأنه يستنفر الفكر والجسد والروح، ويستهلكها إلى درجة الإعياء الجسدي والنفسي والعقلي أحيانا، كما جرى للشاعر رامبو، حين مرض في أثناء كتابته "فصل في الجحيم": "كانت صحتي في خطر. يأتي الرعب، فأقع في إغفاءاتٍ تدوم عدة أيام أصحو من بعدها لمواصلة الأحلام الأشدّ حزنا. كنت ناضجا للموت، وعبر طريق من الأخطار، كان ضعفي يقودني إلى نهايات العالم". أما الكاتب جيمس جويس فقد اعترف بشأن روايته "عوليس" بأن "ورقة شفّافة كانت تفصله عن الجنون"، وهو ما يتكرّر في شهادات فنانين عدة، رأوا في الجنون سمادا ينمّي مقدرات المبدع، ومعولا يهدم أسوار العقل، ليفتحه على إمكاناتٍ لا تحدّ، يسعى الفنّان إلى استغلالها لكي يضعها في عمله.
"الجنون هو ما يفتح الدرب أمام فكر جديد، وما يبيح المحرّم ويسمح الممنوع"، قال نيتشه الذي غرق كليةً في الجنون في خريف العام 1888، في حين كتب دو نرفال، معلّقا على نوباته: "كنت أظنّ أني أعرف كل شيء، أفهم كل شيء، وكانت مخيلتي توفّر لي متعا لا تنتهي". أما لوتريامون، فقد تمكّن من اجتياح قلعة اللغة لابتكار لغةٍ جديدةٍ في قصائده "أناشيد مالدورور"، وهو سجين مصحّته العقلية وجدرانه الداخلية، وكذلك هي حال دو نرفال الذي كتب "أوريليا" خلال إقامته مرتين في المستشفى، عامي 1853و1854، حيث أصبح المرض العقلي "تأليفا شعريا وروحانيا ليومياتٍ خاصة".
أيضا، لقد ظهر أن أسلوب فان غوغ قد عرف منعطفا جديدا عندما بدأت صحته العقلية تتراجع. فحقول عبّاد الشمس، حيث يتراقص اللونان الأصفر والأخضر معا حتى الدُوار، وبورتريه أنطونان آرتو، وهو مثله عبقريٌّ مجنونٌ آخر، قابضا عليه في "اللحظة حيث سيدخل بؤبؤه الفراغ"، عائدة حتما إلى الغضب المجنون الذي سيودي به لاحقا إلى وضع حدّ لحياته من خلال إطلاق رصاصة في صدره. يبقى أخيرا الفنان التشكيلي إدوارد مونش الذي رسم لوحته الشهيرة "الصرخة" في أثناء إصابته بانهيار عصبي، كانت تتم معالجته بالصدمات الكهربائية. "الصرخة" حيث نرى مخلوقا لا جنس له، ممسكا رأسَه بيديه، ومطلقا صرخة صامتة متواصلة في وجه العالم...
أسماء أخرى كثيرة، وسِيَرٌ منكسرة متشظية، وأعمالٌ ستبقى توسّع إدراكنا، وتؤرّقنا بقدر ما تدهشنا، وعباقرة فتحوا علبة باندورا، ونبشوا فيها، إلى أن رأوا انعكاس وجوههم في الجانب الآخر من المرآة.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"