والثلج إذ يصبح حارقاً

والثلج إذ يصبح حارقاً

23 يناير 2018
+ الخط -
ليس الثلج باردا فحسب، هو الذي يُمسي حارقا متى اقترنت برودتُه باليُتم واللامبالاة. حارقاً للأعمار يُمسي، وصنوَّ أكثر ما في الحياة من ضنكٍ وشقاء. البردُ حين يخيّم الظلام، وتنتهي الدربُ وأنت في العراء، ثم يكلُّ صوتُ الطفل جوعا وإنهاكا بين ذراعيك الواقعتين. والبردُ حين تهرب الأطرافُ بعيدا، تختفي، لا تعود لنا، ويدبّ في غيابها ذاك الخدر الأسود اللذيذ. وذلك النعاس الذي يتقدّم زحفَ جيوشٍ من نمل، يغمر الجسدَ شيئا فشيئا، حتى يُثقل الروحَ تماما، مغرقاً إياها في بحيرةٍ من ركود وصمت.
تمدّد الثلاثة كما يتمدّدون في أسرّتهم، لكنهم اجتمعوا، هذي المرة، فوق فراشٍ من ثلج. الأجساد متجاورة. الأب والأم، والطفل بينهما. وجوههم نحو السماء. نحو العدم. سوف يتبعهم كثرٌ سيستلقون هم أيضا في البرد والعراء. الشجر شاهدٌ. والهواء. والتراب. والبقجة الصغيرة الملقاة إلى جانبهم. فيها حملوا أوراقهم الثبوتية، وربما القليل من مالٍ متبقّ، كي يجتازوا الحدود. لقد وعدهم ابنُ آوى أنه سيقطع بهم الجبالَ، والمعابرَ، ونقاطَ التفتيش. سيرفعهم ويعبر بهم من اللامكان إلى المكان، من الخوف إلى الأمان. لا تجزعوا، قال وهو يضع كفّه على صدره، لقد عبرتُ بكثيرين غيركم من قبل، وها هم الآن في الجانب الآخر، وقد وجدوا لهم مكان عيش، ومصدر رزق، ومدرسةً للأولاد.
"كل شيء أفضل من الحرب" (الشاعر محمد العبدالله)، لا ؟ قال الرجل لزوجته، واضعا يده على رأسها. بلى، أجابته باسمةً، ويدها على معدتها، كل شيء أفضل من الحرب. خذ المصاغ وبعه كيفما اتفق. خذ أيضا الصندوق القديم الذي ورثتُ عن أمي، ومسبحة أبي التي حجرها من كهرمان وشرّابتها من ذهب. خذ كل شيء وجئني بكلفة العبور من سورية إلى لبنان. سأترك أهلي وبيتي وبلدي، شرط أن ينجو طفلي، أترك عمري حتى من أجل محطةٍ أولى خارج هذا الجحيم.
كان الثلجُ لهم بالمرصاد، وكان العابرُ بهم مدركا وعورة الطريق، فهو الذي اختارها بعناية لغاية في نفسه. أُوهمُهم أنهم سيقطعون. أفرشُ لهم الترابَ حريرا. ساعاتٍ ونعبر. احترسوا من البرد. أُعطيهم تعليماتٍ تقنعهم أني العليم بكل الأمور. لا تحملوا الكثير، فقط ما تحتاجونه خلال الرحلة. أنتقي كلماتي بعناية. الرحلة. وكأنّهم في رحلة استجمام، في مشوار استكشاف. تدفعون سلفا وأباشر الإجراءات. هذا أرخصُ من رحلة اللجوء إلى أوروبا، وأقل خطرا. البحر مخيفٌ هذي الأيام، إنه الغرق المضمون. تذكّروا الطفل عيلان. تذكّروا كم راح منكم في المياه...
بكى الطفل إذ أخذوه من دفء سريره، وخرجوا به إلى الريح. رفعه أبوه على كتفيه، وسار به. كان الصقيعُ يلاعب أنفه الصغير، فانحنى ما استطاع، ليخفي وجهه في رأس أبيه. خذيني يا أمي، همس حين توقفوا قليلا يستريحون. أشعل الغريبُ سيجارةً، كانت نارها تتوهج في الليل قليلا، ثم تخبو. نحن أيضا كنا نلهث دخانا ليس كالدخان. سألتني أمي إن كنتُ جائعا، وهي تدخل يدها في كيس النيلون، حيث وضعت زاد الطريق، فأومأت برأسي أن لا. كنت بردان وناعسا ومشتاقا إلى حضنها.
في الاستراحة الثانية، قال الغريب أن ننتظره ههنا، فأنزلني أبي عن ظهره، واقتعدنا حجارة كانت موجودةً هناك. أضاف إنه يريد التأكد من أن الدرب سالكة، ومن عدم وجود أي دوريات تفتيش. أخذتني أمي إلى حرجها، وراحت تتمتم بالدعاء. غللتُ فيها عندما اشتدّ البردُ مزيدا، كانت ترتجف وشفتاها ترتعشان، ثم راحت تتحرّك إلى الأمام وإلى الوراء، فخلتُها تهدهدني فغفوتُ، إلى أن أيقظني صوتُ أبي يصرخ هلعا: لقد تأخّر، أتراه صادف دورية ما؟
لا يا أبي. وأنا أراه من حيث أنا الآن، أعرف أنه غدر بنا، ووهبنا صيدا للعراء، طرائد للصقيع. أخذ مالنا، ودلّانا في البئر، وقطع الحبل لكي تتهشّم عظامُنا في القاع. فما نحن، يا أبي، إلا ثلاثة يضافون إلى الملايين. ما نحن، يا أبي، إلا نفنافٌ خفيفٌ كهذا الذي غمرنا، حين رفعنا وجوهنا إلى تلك السماء العمياء.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"