‏"مسطر" ناصر الظفيري

‏"مسطر" ناصر الظفيري

11 يناير 2018
+ الخط -
من النادر جدا أن أباشر الكتابة عن روايةٍ، انتهيت للتو من قراءتها، فعادة أفضل أن أحتفظ بمسافةٍ زمنيةٍ لا تقل عن أسابيع، قبل البدء بالكتابة، لأسبابٍ أهمها أنني أستطيع الخروج من أجواء الرواية خلال تلك الأسابيع، وأستطيع أن أنفصل عن شخصياتها، بما يمكنني من الكتابة بما أستطيعه من موضوعية. لكنني كسرت تلك العادة مرات قليلة مع رواياتٍ كانت جزءا مني، أو كنت جزءا منها بمعنىً أو بآخر، لأنني كنت أعرف أن أي مسافةٍ زمنيةٍ بيني وبين هذا النوع من الروايات، مهما طالت، لن تكون قادرةً على فصلي عنها. وبالتالي، فإن الكتابة المباشرة عنها ستكون أفضل.. على الأقل، حتى أقنع نفسي أن كتابة كهذه ستكون جزءا خفيا منها، وإن كان يخصّني وحدي.
ها أنذا الآن أكسر العادة إذن، مرة أخرى، مع رواية ناصر الظفيري الجديدة "المسطر"، للسبب نفسه. إنها جزء مني، أو إنني من شخصياتها التي لم يكتبها الكاتب، على الرغم من وجودها وحضورها الحقيقي فعلا في الزمان نفسه، والمكان نفسه.
"المسطر" التي صدرت في نهاية العام المنصرم عن منشورات ضفاف هي آخر روايات "ثلاثية الجهراء،" كما عرّف بها مؤلفها الصديق ناصر الظفيري، تحقيقا لحلمه القديم في الكتابة الروائية عن ملف "البدون" الشائك في الكويت، إذ سبقتها روايتا "الصهد"، و"كاليسكا"، على الرغم من أنني أصبحت الآن على ما يشبه اليقين بأن الظفيري بحاجة لتمديد حلمه في رواية رابعة، وربما يستمر الحلم بالتمدد قبل أن ينغلق الملف في صيغته الروائية على الأقل.
ولأنني أحتفظ بنية الكتابة النقدية عن "ثلاثية الجهراء" لاحقا، فضلت أن أكتفي الآن بتسجيل انطباعاتي الوجدانية تجاه نص روائي، كنت شاهدة على معظم الزمن الذي تخلقت فيه أحداثه وشخصياته.
المثير حقا أنني قرأت الرواية في المكان نفسه الذي انطلقت منه، وانتهت إليه، مرورا بمدن وبلدان أخرى. فها أنذا الآن في مدينة الجهراء، حيث لم يتغير شيء حقيقي مما اجتهد ناصر الظفيري بوصفه على الورق، من طبيعة الزمن، أو شكل البيوت، غير انها تعتقت بمزيد من بؤس الحاضر وتقلبات الطقس واستنفار الوعي الذي تشكل في الجيل الجديد الطالع من بين شقوق شوارع تيماء.. ضاحية الأسئلة الصعبة والإجابات المستحيلة، جرح الهوية الذي تشكل بتواطؤ خفي ما بين التاريخ والجغرافيا، ليصير في ما بعد التهمة الجاهزة لكل من يقطن تلك الضاحية التي أصبحت تجيد مداراة بؤسها المتراكم عبر الحفاظ على كل ما شكّل ملامح أبنائها، ووحدهم في ما بين الألم والأمل.
ها أنذا فيها ومنها وإليها؛ كتابة وقراءة ونحتا في الذاكرة التي لا تريد أن تنسى الماضي بتفاصيله كلها، لكن الحاضر يخذلها، لا بقسوته وحسب، بل بتعقيداته الموجعة أيضا، تماما كذاكرة ضيدان، الشخصية المحورية في "المسطر"، والتي احتفت بكل ذكريات الماضي، لتزهد في حاضرٍ لم تعد تفهمه، ولا يبدو أنها تريد ذلك.
تساءلت وأنا أنتهي من قراءة "المسطر"؛ هل كنت أقرأ روايةً أم أراجع مذكرات جيلٍ تلاشت معظم أحلامه فوق أسفلت شوارع تيماء، وفي غرفها المزدحمة دائما؟ ‏هل كنت أقرأ روايةً أم أبحث عن أخطاء وخطايا هذا الجيل، الذي أنتمي إليه، في رحلة البحث عن اعتراف الآخرين بانتمائه إلى وطن؟ هل كنت أقرأ رواية، أم أفتش بين سطورها عن خيباتٍ عشناها رجالا ونساء بعناوين وأسماء مختلفة داخل الوطن وخارجه أيضا؟
لا أعرف تماما.. لكنني متأكدة أن ناصر الظفيري نجح تماما في أن يستدرجني، عبر مهارته القديمة في الكتابة القصصية المشوقة، إلى حيث لم أكن أتطلع أو أريد؛ الشعور بالندم.. حيث لا ينفع ندم.
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.