"أبو العُرّيف" في مصر

"أبو العُرّيف" في مصر

18 سبتمبر 2017
+ الخط -
"أبو العُرّيف" وصف مجازي يطلقه المصريون (وغيرهم) على من يعتبر نفسه اﻷعلم واﻷدرى باﻷمور من غيره. ومن يدّعي أنه الوحيد الذي يملك المعلومة، وعلى اطلاع بأدق اﻷسرار، ويعرف ما لا يعرفه اﻵخرون، يقال له أبو العرّيف. ومن كثرة المصريين الذين يدّعون المعرفة ويزعمون الإلمام بكل شيء، أصبح هذا اللقب يطلق للسخرية، وعلى سبيل المزاح لا الحديث الجاد.
قلّما يوجد مصري يعترف بأنه ليس خبيراً في كل أمور الكون، أو أن ثمّة شيئاً يجهله في العالم. وإذا كنت في مصر، وأردت الذهاب إلى مكان ما، عليك أن تسأل خمسة أشخاص متفرقين. لأن أربعة منهم (على الأقل) لا يعرفون المكان الصحيح، وكل منهم سيرشدك بكل ثقة إلى مكان مختلف.
لكن ادّعاء العلم والإلمام بكل شيء ليس مشكلة فردية أو نزعة شخصية، فالسمات الفردية الخاصة بكل شخص تتفاوت في وجودها أو غيابها وكذلك في حدّتها. إنها مشكلة شعب يرى نفسه الأقدم والأقدر من بين شعوب العالم. كأن عدم معرفة معلومة، أو الجهل بشيء ما، نقيصة أو سُبّة. لذلك لدى المصريين إجابة سريعة لأي سؤال، وتفسير حاضر لكل قرار. وقبل عقود، قدمت قصة "المطار السري" مثالاً بالغ الدلالة على النزوع الحثيث نحو كشف الأسرار، واستسهال تداول المعلومات لدى المصريين. عندما تسرب خبر وجود مطار عسكري سري غرب القاهرة، كانت الحافلات تتوقف قريباً منه. وسرعان ما أصبح المصريون جميعاً يعلمون مكانه، حتى أن محطة الحافلات صار اسمها "محطة المطار السري".
لا يكتفي المصريون بتبادل ادّعاء المعرفة الحصرية فيما بينهم، فيذهبون إلى جعل التفرّد بالمعرفة درجات ومراتب، ويمنحون أصحاب القرار، وذوي المناصب، اليد العليا في امتلاك المعرفة، كل حسب مرتبته وموقعه. وفي مسمّى "رب" الأسرة من التجاوز والمبالغة ما يجسّد عمق الخلل والاعتمادية التي تتغلغل في الشخصية المصرية. إذ يتجاوز مفهومه حالة الأسرة التي يعتمد أبناؤها بانقيادٍ طفولي، وتلذّذ بعدم المعرفة، على اﻷب الذي يفهم ويعرف كل شيء، غير أن تلك الثقافة اﻷبوية تتجاوز نطاق اﻷسرة، فهي تهيمن على كل الكيانات والوحدات المجتمعية، بل وعلى مستوى الوطن ككل، فصار من التقاليد الراسخة في العقلية المصرية أن من يدير قسماً أو يقود مجموعة أو يترأس مؤسّسة، هو الأعلم والأدرى بكل الأمور. يفهم في السياسة والاقتصاد والإدارة والثقافة والرياضة والإعلام والطب والمرور والاتصالات وعلوم البناء والزراعة والكهرباء وسعر العملة وحركة الأسواق والصرف الصحي، بل وعلوم الفضاء أيضاً.
وراء تلك النزعة حالة متأصلة من التواكل والتطلع إلى المُخَلّص المُنقذ الذي يمتلك ناصية المعرفة ومفاتيح الكون، ولديه حكمة مطلقة. في تناقضٍ بين ادّعاء كل فرد احتكار المعرفة والعلم بالخفايا، وإسباغ الصفة ذاتها على الآخر، حين يكون هو القائد أو يملك القرار. لكنه تناقضٌ مفهوم، كون ادّعاء العلم والتباهي بين الرفاق بمعلومة، قد تكون مُختلقة، لا يرتب مسؤولية أو مساءلة. أما إذا صار أحدهم مسؤولاً أو قائداً، يهرع الجميع إلى تنصيبه أعلم العالمين، ومبايعته كما لو كان المهدي المنتظر.
اقتران التباهي بالنفس، مع التواكل على الغير، حالة نفسية مُعقَدة. أما اجتماع التسليم أو التواضع مع النرجسية، فأكثر تعقيداً. إذ يصعب فهم أن يكون المرء مواطنا عادياً، أو مرؤوسا بسيطاً، أو عضوا في فريق عمل ينقاد أعضاؤه بأريحيّة وراء حكمة قائده، ومعرفته ورجاحة عقله. وما إن يتولى منصباً أو يملك القرار ويدير دفّة الأمور، إلا ويتبع خُطى أسلافه، فيتوهم أنه فجأة صار عالماً بالأقدار، عارفاً بالأسرار، حكيماً في كل قرار.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.