حقٌ يراد به باطل

حقٌ يراد به باطل

02 سبتمبر 2017

أطفال في القاهرة القديمة.. كل خمس ثوان مولود (4/8/2017/Getty)

+ الخط -
أما عن الحق فهو أن أي خطة تنموية لمصر لا مفرّ فيها من خفض الزيادة السكانية. وأما عن الباطل فهو ادّعاء أن هذا هو سبب تعطل التنمية.
أعلى مبنى الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في حي العباسية في القاهرة، وضع المسؤولون منذ سنوات "الساعة السكانية"، وهي التي تعلن كل خمس ثوان ميلاد طفل جديد في مصر. في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، دق المسؤولون أجراس الخطر، مع وصول الساعة السكانية إلى 92 مليون نسمة داخل مصر، وهو ما يعلن وصول تعداد المصريين إلى مائة مليون، بحساب الملايين الثمانية في الخارج.
تصاعدت النبرة الدرامية. قال الرئيس عبد الفتاح السيسي، في أحد خطاباته، إن الإرهاب والزيادة السكانية أكبر خطرين يواجهان مصر في تاريخها، وإن المواطنين لن يشعروا بالإصلاح الاقتصادي بسبب ذلك. وفي مؤتمر الشباب، قال إنه يتحدث بوازع ديني، ومن يُنجب أربعة أبناء لا يمكنه الإنفاق عليهم سيحاسبه الله، لأنه يظلمهم. وأطلقت وزارة الصحة الشهر الماضي حملة قومية ضخمة لتنظيم الأسرة، بمشاركة 12 ألف رائدة ريفية على 6000 مركز، تحت اسم شاعري: "طوق النجاه".
من جانب الحق، يجب القول إن كل الخبراء المحايدين والدوليين يجمعون على أن دولةَ بظروف مصر لا بديل لها عن محاولة خفض الزيادة السكانية، والحقيقة أن شعارات المعارضة التي تشير إلى الصين تفتقر إلى زوايا يتم إغفالها عمداً، في إطار المكايدة السياسية. فرضت الصين نظاماً صارماً للطفل الواحد لأكثر من ثلاثين عاماً، بلغت قسوته أنه لا يعاقب الأهل فقط، بل يعاقب الطفل الثاني نفسه إذ يُحرم الوجود الحكومي، لا شهادة ميلاد ولا إنفاقا عاما على تعليمه أو صحته أو أي شيء!
إذا وصل إلى الحكم في مصر غداً صباحاً أي معارض، فلا بديل له عن الاستمرار ببرامج تنظيم الأسرة وخطط خفض الزيادة السكانية.
لكن على جانب الباطل، يتم استغلال هذه اللافتة للتهرّب من المسؤولية، وكأن اقتصاديات الدول تتأثر بشكل مباشر بمعدل إنجابها.
تخبرنا الأرقام بقصة أخرى. شهدت حقبة التسعينات أنجح حملات تنظيم الأسرة التي اتسمت بشعارات ووسائل مبتكرة دخلت كل بيت حرفياً، انخفض معدل المواليد من 29.4 فى الألف عام 1988 إلى 20 عام 1992. وفي المقابل، كان النمو في العام نفسه قد وصل إلى القاع بمعدل 0.3 % فقط.
فى المقابل، مع بداية الألفية عادت الزيادة إلى التصاعد، حتى بلغنا معدل 22.9 في الألف عام 2009. وحسب الربط الساذج، كان يفترض أن تكون هذه هي السنوات الأسوأ اقتصاديا، لكن ما حدث أن النمو الاقتصادى كان في قمته في تلك السنوات، حتى وصل عام 2008 إلى 7.1%، قبل أن ينهار فى العام التالي إلى 4.7%.
لم ينخفض النمو، لأن المصريين يُنجبون كثيراً، ولم يرتفع لأنهم تغيروا. ببساطة، هناك عوامل اقتصادية وسياسية أخرى، ذات أهمية أكبر من الزيادة السكانية.
تريد السلطة الهروب من أسئلة الأداء الاقتصادي والتنموي، وكذلك دفن ملفات التحول الديمقراطي والمجتمع المدني وغيرهما. لذلك لا صوت يعلو على صوت تنظيم الأسرة.
جانب آخر من الصورة هو الإجابة على سؤال: لماذا ينجب الفقراء أكثر؟ في الواقع، هم لا يفعلون ذلك لأنهم جهلاء. هذا تدليس، بل لأن الأسرة الفقيرة تحتاج إلى كل مليم يمكن توفيره، وما دام أطفال الفقراء لن ينالوا غير التعليم الحكومي والفرص الضيقة، سواء كانوا طفلاً أو عشرة، فلا يمكن الاستثمار في الكيف. لذلك من المنطقي بالنسبة له أن ينجب أكثر ليستثمر في الكم، يستثمر فيهم كأيد عاملة. خمسة أطفال يبيعون على إشارات المرور أفضل من طفل أو اثنين.
نحتاج إلى خطاب سياسي معارض في مواجهة الخطاب الحكومي، يقدم رؤية متوازنة بالأرقام والأدلة.
من الحق القول إن الزيادة السكانية من العناصر المحددة لنمو الدولة، لكن قطعاً من الباطل اعتبارها كل العناصر، كما يوحي الخطاب الحكومي منذ عقود، للاستفادة من هذه "الشماعة" المريحة. لكن لا "شماعات" يمكنها حمل جبالٍ من الأخطاء.