من أين تأتي الحداثة؟

من أين تأتي الحداثة؟

19 اغسطس 2017

(هاني حوراني)

+ الخط -
في أثناء الشجارات المشتعلة حول مشروع قانون المواريث الجديد في تونس، والتي تركزت على الأمور النظرية بشأن النصوص وتفسيراتها وحدود تفعيلها أو تعطيلها، كان كل ما يهمني سؤال التطبيق: كيف تتغير المجتمعات؟ كيف تتغير الأخلاق والعادات والقيم والأعراف؟ كيف يتحول العادي إلى عيب والعيب إلى عادي؟
أغلب نساء الصعيد في مصر اليوم لا يرثن أصلاً، على الرغم من أن القانون في صفهن، وكذلك الشريعة الإسلامية، أي أن الأساس النظري متوفر بشكل تام، لكن هذا لم يغير الواقع.
وفي مثال آخر شبيه، جرّمت مصر بالقانون ختان الإناث منذ عام 2008، كما أصدرت دار الإفتاء المصرية من وقتها عدة فتاوى تُحرّم هذه الممارسة البشعة، لكنها واقعياً مازالت توجد بكثافة، ومازال الحساب شبه معدوم، حتى حين تُكشف احدى الحالات يحدث غالباً تواطؤ من كل الأطراف على إخفائها. الواقع أقوى من التنظير.
وفي تركيا اليوم المواريث متساوية، ولا توجد أي قوة سياسية تطرح تغييرها، ومنها الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه، العدالة والتنمية، بطبيعة الحال، هذا ليس لأن هناك قوة تفرض ذلك، بل لأن هذا أًصبح العرف المجتمعي العام حالياً.
لا أزعم وجود إجابة قاطعة. لكن، محاولةً أظن أن الشعوب تتغير بسيناريوهات ثلاثة:
الأول: تحت ضغط تحولات ضخمة في الواقع تؤدي إلى تحولات إجبارية في قناعات الناس. لم يقتنع الأوروبيون بالتحرّر من سطوة الكنيسة بسبب نقاشات ثقافية، بل حدث هذا بأغلى ثمن ممكن، بعد أن ماتت ملايين لا تحصى في الحروب الدينية، خصوصاً بين الكاثوليك والبروتستانت. وبالمثل، تخلص العالم من العنصرية العرقية فقط بعد ظهور الفاشية والنازية. وكانت الدولة العثمانية في حاجةٍ لصدمة التراجع والانهيار في عقودها الأخيرة، لتحاول أخيراً اللحاق بالعالم، فتصدر التنظيمات السلطانية.
على نطاق أضيق، خرجت النساء المصريات إلى العمل بشكل عام لسبب اقتصادي مُلح، هو أن دخل الزوج وحده لم يعد كافياً. لم تكن ألف خطبة نارية عن تمكين المرأة لتفعل ما تفعله عضّة الجوع. وللمفارقة، هذا السبب الاقتصادي في مصر أيضاً هو عامل رئيسي في أن الرجال لا يورثون الإناث في الصعيد.
السيناريو الثاني: تأسيس نواة صلبة من المناضلين المثابرين، وبصبر وتدريج يتوافق مع لحظةٍ فيها ظروف تاريخية معينة، تتمكّن من الحصول على مساحات، هذه قصة حركة حصول المرأة على التصويت في أغلب دول أوروبا.
ومن المهم هنا الإشارة إلى حقيقة أن المرأة لم تُمنح حق التصويت في فرنسا، بلد التنوير، إلا عام 1944. وظلت المرأة في سويسرا محرومةً من التصويت حتى عام 1971. واستغرق المسار نحو قرنين.
السيناريو الثالث الذي يحبه العرب هو الحاكم القوي، لكن ما يفوتهم أن قوته لا تنبع فقط من لديه القوة ليسجن ويقتل. وهذا قد يجبر الناس ولا يغير قناعتهم. تقتنع الناس بمن مصدر قوته إنجاز أو شرعية ما. مثلاً في حالة التنظيمات العثمانية من أصدرها هو الخليفة العثماني بكل ما يحمله من شرعية دينية، أو في حالة كمال أتاتورك استند لمنجز هائل بإنقاذ البلد من الاحتلال. ولهذا، كان سهلاً أن يقرّر مجلس النواب التركي (المنتخب) في 3 مارس/ آذار 1924 إلغاء الخلافة التي كانت قد انتهت عملياً قبل انتهائها قانونياً، وشعبياً قبل انتهائها رسمياً. وهذا قريب نسبياً من تونس، كان الحبيب بورقيبة بطل كفاح مسلح طويل، وتعرّض للنفي والسجن سنوات، ووقع مع فرنسا اتفاقية الاستقلال، وهذا لا يغير من أنه ديكتاتور أيضاً.
لا يعني هذا إهمال أهمية القرارات الحكومية، سواء السريعة منها كقوانين عاجلة، أو السياسات البطيئة كمناهج التعليم وإصلاح الاقتصاد وأمثالها، لكنه يعني إدراك الواقع الذي لا يتغير ببساطة بمجرد قرار. وعلى النخب أن تزن خطواتها بأدقّ ميزان. التحديث القسري من الأعلى كالأسلمة القسرية من الأعلى، ولنا مع كليهما تجارب غاية المرارة.
يمكن أن تسبق النخب شعوبها، لكن هناك فرقاً كبيراً بين أن تتحوّل إلى قاطرة لجر المجتمع إلى الأمام وأن تتحول إلى أقلية معزولة تتلقى عداء من يفترض بها تحريرهم، وبين أن تتحول إلى آلة قمع جديدة، لو وصلت إلى الحكم.