من القلب إلى المائدة

من القلب إلى المائدة

07 يونيو 2017

(بهرام حاجو)

+ الخط -
توقّفت اللقمة في حلقه، وشعر أنّه سيختنق، فقد كانت صورتها ماثلةً أمامه على الشاشة، وهي تقدّم إعلاناً لصنف غذائي شهير، فيما كتب تحت صورتها اسمها مسبوقاً بخبيرة التغذية. ولذلك، فرك عينيه بيده النظيفة مراراً، لكي يتأكّد مما يراه، حتى أصبح واثقاً أنّها هي ذاتها بشحمها ولحمها واسمها.
والحقيقة أنّه لم يرَ شحماً، فهي لا تزال تمتلك قوامها الممشوق الذي تركه قبل عشر سنوات، والوجه الضحوك نفسه في وقار، فلم تكن سوى أيقونةٍ من الجمال تتوسط الشاشة الفضيّة أمامه، فيما كان كرشه يتدلّى للأسفل، مع لسانه المتدلّي في صدمة وبلاهة، ولم يكن أمامه سوى أن يزدرد اللقمة، ويُلقي رأسه الذي أصبح خالياً من الشعر على الأريكة من الخلف، ويسرح بأفكاره وذكرياته إلى سنواتٍ عشر مضت.
شعر بالمرارة وهو يتذكّر كيف التقاها في الجامعة، وتركت كلّ الزملاء حولها، وتعلقت به، وهي ابنة عائلة ميسورة الحال، فيما كان ينتمي للطبقة المتوسطة، ولكنها لم تُشعره لحظةً أنّها أعلى منه في المستوى، بل كانت تترك سيارتها في مرآب الجامعة، وتجوب معه المنطقة المحيطة بها سيراً على قدميها، وتحدّثه عن الأحلام والمستقبل.
أصبحا يمضيان الأمسيات، وهما يثرثران عبر الهاتف، والكتب تتناثر حولهما، فإصرارهما على النجاح هو الهدف المشترك بينهما، لكي يكتب لحبهما النجاح، وهو الآن يعترف أنّها الحب الوحيد في حياته، وبأنّه لم يفكّر بالارتباط بفتاةٍ أخرى منذ تركته، وكل ما عرفه عنها أنها تزوجت رجلاً غيره، رجلاً استطاع أن يحتوي هذه الأنثى المتكاملة التي لا تجد فيها عيباً واحداً، حاضرة الذهن والذكية، والتي تحتويك مهما كانت شخصيتك، فقد كان يخاف من ذكائها في حضرة الزملاء والزميلات، والذي يُشعره بأنه أصبح محشوراً في خانةٍ ضيقة، وأكثر ما كان يخيفه أنها كانت تمتلئ بالأحلام والطموحات، بعيداً عن رصيد والدها في البنك، وصيت عائلة أمّها العريقة.
حتى تخرّجا وبدأت العمل في مشفى حكومي، والحقيقة أنها كانت تدرس الطب مثله تماماً، ولا يدري كيف أصبحت أخصّائية التغذية، وتظهر على الشاشة وهي تشرح عن وجبةٍ مثاليةٍ لإنقاص الوزن خلال شهر رمضان، ويبدو أنها، كما قالت له يوماً، إن الوقت الذي ستشعر فيه أن دراستها لم تحقّق ما تريده فسوف تتّجه إلى دراسة أخرى مهما كلفتها، فهل وجدت نفسها في هذا المجال، وهي تجمع بين الإعلام والصحة في وقت واحد؟
ماطلها كثيراً، وهي تطلب منه أن يتقدّم لخطبتها فيما كان يعمل في مستوصف حكومي، ولا يقوم بعمل ذي أهمية سوى تدوين الأدوية الموجودة في صيدلية المستوصف، والتي لا تزيد عن عدة أصناف لمرضاه الكثيرين. شعر أنّه تحول إلى آلةٍ بفعل الوظيفة الحكومية، ولكنه تمسّك بها، حتى تهدّل قوامه وفقد شعر رأسه.
في المكالمة الأخيرة، أخبرته أنها سوف تتزوج، وبأنها لم تعد قادرةً على الانتظار، وفي كلّ مرّة يختلق لها عذراً أقبح من ذنبه، وذنبه الحقيقي هو الخوف من ذلك الكائن المتكامل، ويبدو أنه كان يتلذّذ بتعلّقها به، فهو يتحكّم في حياتها، على الرغم من أنها فتاة أحلام أي شاب من الوسط الذي تنتمي له وأوساط أعلى من وسطها.
في آخر الإعلان، كان حسابها على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" قد تم وضعه بحروفٍ مضيئةٍ، فدوّنه سريعاً وفتح جهاز الكمبيوتر عتيق الطراز الذي يمتلكه، وهكذا أصبح أمام حسابها الشخصي، فرأى صورتها مع رجلٍ وسيم وطفلين جميلين.
أيقن الآن أنها كانت أكثر شجاعةً منه في اتخاذ القرار، وأنه قد خسرها، فهي لم تقف عند الوظيفة الحكومية، وانطلقت نحو أفقٍ جديد، تركته مع عجزه عن اتخاذ القرار بأن تكون زوجته، شعر بمرارةٍ في حلقه، فابتلع كأسه المليئة بعصير معلّب، على الرغم من أنها كانت تتحدث عن مضار العصائر المعلّبة على الصحة، خصوصاً في أثناء تناول إفطار رمضان، ولمن هم فوق سن الأربعين بالتحديد.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.