"3000 ليلة"... أنوثةٌ وأمومةٌ أسيرتان

"3000 ليلة"... أنوثةٌ وأمومةٌ أسيرتان

05 مايو 2017
+ الخط -
ميرفت طه، سمر صبح، منال غانم،.. أسيراتٌ فلسطينياتٌ أنجبْن وهن في سجون الاحتلال، في العقد الماضي، في ظروفٍ بالغة الشناعة، وبقي مواليدُهن بينهن، شهوراً أو سنواتٍ، في زنازين المحتل الإسرائيلي. لسن وحدَهن من تعرّضن إلى هذا اللون من العُسف، ثمّة عشراتٌ غيرهن، طوال سنوات نهب فلسطين، وَلدْن أولادا وبناتٍ في معتقلات سارق البلاد. نشر صاحب هذه الكلمات، قبل أحد عشر عاما، مقالةً دعت إلى أن تلتفت السينما الفلسطينية (والعربية) إليهن، تعريفاً بعذابات المرأة الفلسطينية وفعلها المقاوم. وهذا سببٌ شخصي للفرح بفيلم "3000 ليلة"، الروائي الأول لمخرجته مي المصري، بعد ثلاثين عاما من إنجازها أفلاما تسجيلية ووثائقية، (بعضُها مع زوجها جان شمعون)، لأنه يبني حكايته على قصة أسيرةٍ فلسطينيةٍ أنجبت ابنها، في أثناء "محكوميّتها". ومن أسبابٍ عامةٍ للفرح بالفيلم (2016، إنتاج فلسطيني لبناني فرنسي، ومشاركة أردنية، ومساهمتين من قطر والإمارات) أنه موفّقٌ في صنعته الفنيّة، في أداء ممثليه، في تصويره، في الإيحاءات المكثّفة التي اشتمل عليها، في المعاني الوفيرة التي أحاط بها، في مشهديّاته وتصويره، وأيضا في إيقاعه العام، ولو مع شيء من الاختلال في السيطرة على مساره الزمني. وهذا كله يعني أن مي المصري نجحت، وبتميّز ظاهرٍ، في اختبار قدراتها السينمائية، وهي تغادر التسجيليّة المحضة، وتذهب إلى الإفادة من الوثيقة والواقعة المتحقّقة في إخراج فيلمٍ سينمائيٍّ روائي شائق.

ثلاثة آلاف ليلةٍ هي ثماني سنوات قضتها المعلمة الفلسطينية الشابّة، ليال، أسيرةً لدى المحتل، بتهمة مساعدتها شابّا فدائيا. بعد شهورٍ من احتجازها تعرف أنها حاملٌ، تمتنع عن إسقاط جنينها، كما طلب والدُه الانتهازي والمحتل الإسرائيلي. ثم تلد طفلها الذي يغادر السجن بعد عامين أمضاهما فيه مع أمه، وبين "أمهاتٍ" له، زميلاتِ والدته في الزنزانة الكئيبة. هذا هو المسار العريض للفيلم، غير أن حكاياتٍ فرعيةً وتفاصيل عديدةً متنوعة، حفل بها "3000 ليلة" جعلته فيلما عن قضية فلسطين كلها، عن العدالة وقيمة المقاومة، عن الإرادة وقوة الروح، عن الضعف الإنساني، عن الحرية، عن الأنوثة، عن الأمومة، عن قدرة الإنسان على اجتراح ممكنات مواجهة العنت والصلف، في ظروفٍ شنيعةٍ وقاسية.
سجنٌ إسرائيليٌّ يمثله سجنٌ عسكريٌّ متروكٌ قرب مدينة الزرقاء الأردنية، وميساء عبد الهادي تؤدّي دور الأسيرة ليال، البطلة المركزية في الفيلم، ونادرة عمران في دورٍ يجمع الصلابة والبساطة، والنكد والحنان، أسيرةً من الشتات اللبناني، وأناهيد فيّاض في دور أسيرةٍ تضعُف أمام ابتزاز السجينات، وممثلاتٌ أخريات، في أدوار أسيراتٍ أيضا، وأخرياتٍ يُحسَدْنَ على قدرتهن الفائقة في تجسيد فظاظة السجّانات الإسرائيليات، وتشخيص سفالة سجيناتٍ إسرائيلياتٍ أيضا. تنتقل كاميرا متحرّكة في فضاءاتٍ مغلقة، وبالأبيض والأسود غالبا، فتجعلك أمام مشاهد غايةٍ في الواقعية. ويأخذك إتقانُ الأداء وبراعة تصوير الفرنسي، جيل بورت، إلى أجواء المكان القاسي، وإلى دواخل الأسيرات، إلى أحلامهن وأشواقهن، وغالبا مع ليال، ولا تخفى هنا القصديّة في اختيار اسمها هذا. تتبيّن، أنت مُشاهد الفيلم، في ملامح الأسيرة (أو ميساء عبد الهادي؟)، وهي تُغالب قسوة ما هي فيه، والتوحّش الذي تُكابده حواليها، مع أقرانها من زميلاتها. وكذا أوجاع الانتظار، وآلام الجسد والروح. وفي الأثناء، يمرّ خيطٌ من مشاعر حبٍّ طفيفة، تسري فيها عرَضا، تجاه شاب أسيرٍ ممرّض، بدا ظهورُه في الفيلم نورا من تفاؤلٍ ممكن، كما عصافيرُ قدّام نافذةٍ تحدّق عندها ليال في أفقٍ بعيد، في حنينٍ إلى شمس حميمة.
شكرا، شبّان جمعية الروزنا في الدوحة، أنهم يسّروا فرصة لمشاهدة "3000 ليلة" في بادرة تضامن مع أسرى فلسطين. شاهدنا فيه مصابيح وأضواء زرقاء، وأنواراً خافتةً، وتحسّسنا مراراتٍ، ونوبات خوفٍ وقلقٍ، وإضراباتٍ، واعتداءاتٍ باقتحام السجن بالغاز. وكذا لهفة انتظار الأخبار من الخارج، عن اجتياح بيروت، ومذبحة صبرا وشاتيلا، ثم تبادل أسرى، يشمل بعض صاحبات ليال التي تبقى إلى اكتمال ثلاثة آلاف ليلة، تنتهي، كما في سيناريو مي المصري نفسها، بلقطة معانقة الطفل، نور، أمام بوابة السجن، بعد مائة دقيقةٍ من مشاهد شفّافة وحادّة، في فيلمٍ جميل.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.