عندما تجتمعُ الإنسانيةُ والأخلاق

عندما تجتمعُ الإنسانيةُ والأخلاق

26 مايو 2017
+ الخط -
كنتُ في المقعد الخلفي للباص، متجهاً الى المنزل، وأنا شريدُ الذهن، يعتريني الإرهاق والتعب، وبجواري شخصٌ أشعلَ سيجارتهُ وصار يشربها بشراهةِ طفلٍ يأكلُ وجبتهُ المفضلةِ وهو لا يعرف أنها ضررٌ على صحتهِ، وعلى صحة الآخرين.
أخبرتُ ذلك الرجل بأسلوبٍ مهذبٍ، بأن يطفئها احتراماً للآداب العامة وللآخرين، رفض الرجل وظل يستمتع بدخان سيجارتهِ الأسود. كان يبدو أنّ أخلاقه عفا عليها الزمن، فقررت تركهُ وشأنه، أشحتُ بوجهي جهة نافذة الباص التي بجانبي، متحاشيًا دخان سيجارته.
وبينما كنتُ أنظر في عيون العابرين، متأملاً حالة البؤس التي تبدو على وجوههم، وعن سبب ذلك، واضعاً في رأسي أنّ السبب الأكبر في ذلك يعود للأزمة الأخلاقية التي يعاني منها أغلب الناس، وليس الأزمة المالية والحرب، كما يظن البعض.
توقف الباص فجأةً بسبب الزحام، فصحوتُ من ذلك التفكير وعادتْ ذاكرتي إليَّ بعد أن استحوذ عليها التفكير لدقائق.
نظرتُ إلى الرصيف فرأيتُ رجلًا لا يتجاوزُ عُمرهُ أربعين عامًا، يبدو على وجههِ غبار الفقر ووجع المرض، يدفعُ بيديهِ الضعيفتينِ كرسيّاً متحركاً، عليهِ عجوزٌ أقعدها المرض، فصارتْ رهينةً لذلك الكرسيّ المُتهالك، ووراء تجاعيد وجهُها تُخفي الكثير من الألمِ والمعاناةِ. كان ذاك الرجلُ وأمهُ يبدوانِ مُتعبينِ من الجوع، وربما لم يُذوقا الطعامَ منذُ الصباح. كانت الساعة حينها الواحدةُ والنصفُ ظهراً، بينما أنا كنتُ أنظرُ لهما وقلبي يتوجعُ من الأسفِ عليهما كما تتوجعُ معدتاهُما من الجوع، فجأةً وقفَ أمامهما شابٌ أسمر البشرةِ، يقودُ دراجةٍ ناريةٍ ويحملُ في يديهِ كيساً أحمر اللون، فيه عدد من الأكياس الصغيرة (علاقيات) المليئة بالغذاء (السفري)، بعضها أرزٍ وبعضها بطاط, والعديد من الخبز (الكُدم).
أخذَ الشابُ كيسًا من الأرزِ وآخر من البطاطا وعدد من الخبز، وأعطى ذلك الرجل الفقير وأمهُ المُقعدة، فأخذها الرجل والإبتسامة بدت تلوْحُ على شفتيهِ، فأعطاهُ الشاب كيساً آخر وشغّلَ درّاجتهُ النارية ومضى مسرعاً في الشارع، يواصلُ طريقهُ إلى حيث لا أدري، ولكنّي أيقنتُ أنّه ماضٍ في طريقِ الخيرِ والثواب، كنتُ أتمنى أن أعبّر له عن شكري لهذا الموقف الإنساني النبيل، لكنهُ مضى مسرعاً ولم يتركُ لي الفرصة لذلك، بينما الباص كان يتحرّكُ ببطء شديدٍ بسبب الزحام.
بدا عليّ الشعور بالإستغراب والإعجاب والإرتياح في اللحظة نفسها، وتمنيتُ لو أنّي أُقبّلُ جبين ذلك الشاب، لأنهُ أثبتَ إنسانيتهُ وأخلاقهُ الإسلاميةِ، وأعادَ إلى نفسي الشعور بالأمل، على الرغم من أنّي ظننتُ أنّ كثيرين من أبناء المجتمع أصبحوا بلا إنسانية ولا أخلاق، ولكن عاد لي الأمل مجدداً، بأنّ اليمن ستكون بخير، ما دام في أبنائها الكثير من أمثال ذلك الشاب النبيل.
حقًا، كان شعوري لا يُوصفُ، فقد أحسستُ أنّ قلبي بوتقة للإرتياح والحزن بنفس الوقت، سعادتي بوجود أُناسٍ خيّرين، يرسمون البسمةَ على شفاهِ الفُقراء وحُزني لوجود أُناسٍ يتضوّرون جوعًا ووجعاً من شدةِ الفقرِ والمرض.

D3DEB331-FD61-412F-A981-A02DF5C92998
D3DEB331-FD61-412F-A981-A02DF5C92998
مطهر الخضمي (اليمن)
مطهر الخضمي (اليمن)