الحديقة الجوردانية

23 مايو 2017
+ الخط -
في فيلم "الحديقة الجوراسية"، يعمد علماء إلى استنساخ ديناصورات حقيقية من إحدى الحفريات التي قادتهم إلى اكتشاف بيوضٍ متحجرة من تلك الكائنات العملاقة، فيستخدمونها لتخليق عدد كبير من الديناصورات التي توضع في حديقةٍ كبيرةٍ مجهزةٍ لتكون مزارًا سياحيًّا. أما في "الحديقة الجوردانية"، وعلى نقيض الفيلم الأول تمامًا، سعى ملكٌ شاب، منذ تسلمه الحكم، إلى محاولة القضاء على "ديناصوراتٍ تأبى الانقراض، فخاض حربًا مع منظومة تحجّرت على "العشيرة" و"القبيلة"، و"المنبت"، تارةً بالاستعانة بفريق حكومي شاب يجيد استخدام أدوات العصر، وطورًا بطرح أوراقٍ نقاشية، آخرها ورقة عن "المجتمع المدني" وأهميته لتحقيق التطور، واللحاق بركب العصر، غير أن الملك ارتطم، دومًا، بديناصوراتٍ تسدّ عليه الطريق، وتعيد حديقته المشتهاة إلى مربعها العشائري الأول.
وحين أدرك الملك استحالة التغيير الهرمي الذي يبدأ من الأعلى، وينتهي بالقاعدة، تخلى عن معظم فريقه الشاب، باستثناء قلةٍ منهم لم يتركوا تأثيرًا يُذكر، ووجد نفسه مضطرًا للعودة إلى الوجوه القديمة الأدرى بالديناصورات وشعابها، مع محاولة المزاوجة الخجولة بين القديم والحديث، في محاولةٍ منه لنقل فيروس الحداثة إلى الأجساد المتحجرة، غير أن ما حدث هو العكس، إذ انتقل فيروس القدامة إلى الحداثة.
ثم فكّر الملك، أن يبدأ بالقاعدة هذه المرّة، ويوجّه الجهد إلى المدارس والجامعات، مراهنًا على الأجيال الجديدة لتحقيق المجتمع المدني المأمول، فجاءت النتيجة وبالاً، مع تفاقم العنف الجامعي داخل أعرق الجامعات (الجوردانية)، فأصبحت هذه المنارات عرضةً للاحتلال العشائري، من ديناصوراتٍ يانعة، تمتشق السيوف والبلطات، وتقتحم المرافق، وتبث الرعب في نفوس الطلاب الآخرين والأساتذة معًا.
باختصار، اكتشف الملك أن "الديناصورية العشائرية" لا تقف عند حدود سنٍّ معينة، بل تشمل أبناء الديناصورات وأحفادهم، أيضًا، ولم يعد مستغربًا، أن تجد ديناصورًا "مراهقًا" يقطع طريقًا، ويطالب بما يعتبره حقًا له من "الواجهات العشائرية". والمقصود طبعًا الحصول على قطعة أرضٍ مجانية من الدولة، باعتباره من "كبار البلد"، وفق الأغنية العشائرية التي تسيّدت مشهد الفن الأردني أخيرا، ذلك أن للعشيرة أدواتها الفنية، أيضًا، وكذلك أدواتها الإلكترونية، إذ تحفل مواقع التواصل الاجتماعي بصفحاتٍ عشائرية، لا هدف لها غير التنافخ بالأصول والأفخاذ، وتقزيم "المنابت" الأخرى، المتَّهمين، دومًا، بـ"نقص" ولائهم، لكونهم لا يحملون "عرق" البلد النقي.. وهكذا، تغدو التكنولوجيا في خدمة "العشيرة"، وتعزّز انتفاخها، وتنأى بها عن قطار العصرنة والحداثة، بدل أن تكون وسيلة تقريبٍ إليهما، هذا عدا المحافل الرياضية، إذ يغدو واجبًا "تفويز" أي فريق تناصره العشيرة، وفي حالتي الفوز والخسارة، لا بد من إغلاق الشوارع.
أما الأنكى من هذا وذاك، فهو الاكتشاف الذي لم يحيّر الملك وحده، بل كل من يؤمن بالمجتمع المدني، وهو اكتشاف تجلّى في أحداث العنف التي وقعت في قرية أردنية صغيرة، تميزت، عقوداً، بأنها منبع للمفكرين والدارسين والنوابغ، إذ اندلعت فيها مشاجرة عشائرية دموية، على خلفية "موقف سيارة"، وأسفرت عن مصرع أستاذ جامعي، على يد "طبيب"، وجرح عدة أشخاص من عشائر البلدة، بما يدلّ على أن فيروس العشائرية متأصل، أيضًا، في دماء النخب المتعلمة والمثقفة، بل والحزبية أيضًا، بدليل أن من يقود معظم الأحزاب "الجوردانية" أمناء عامّون من الوجوه العشائرية المعروفة.
على أن من الإجحاف، أن نخص الأردن وحده، بالعشائرية، فالفايروس يشمل حدائق أخرى محيطة، بما فيها دولٌ تدّعي "التقدمية" و"الاشتراكية"، و"القومية"، و"البعثية"، إلى آخر تلك الشعارات الضخمة البراقة، حين لجأ حكامها إلى عشائرهم، وطوائفهم، ومساقط رؤوسهم، للاستعانة بهم على تجذير سلطانهم وقمعهم واستبدادهم.
وفي النهاية، تنتصر العشيرة المدجّجة بأسلحة التاريخ والمستقبل والدين والعلم والتكنولوجيا والرياضة و(الحقّ الفطري)، على سائر خصومها الطامحين إلى إقامة المجتمع المدني.
عمومًا، لو تمهّل الراغبون بإعادة استنساخ "الديناصورات" المنقرضة في "الحديقة الجوراسية"، قليلًا، لكفتهم "الحدائق العربية" عناء المحاولة بديناصوراتها العصية على الانقراض.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.