صمت

صمت

28 مارس 2017
+ الخط -
بمناسبة عرض فيلم "صمت" في الصالات العالمية، وهو من إخراج الأميركي المعروف، مارتين سكورسيزي، كان لا بدّ من العودة إلى الرواية التي اقتبس منها الفيلم، وهي للياباني (المسيحي)، إندو شوساكو، وقد اعتبرت من أهم كتبه، إذ جعلته يفوز بأهم الجوائز الأدبية في بلاده، كما تم تصنيفها من بين أهم الروايات العالمية، وتُرجمت إلى لغاتٍ كثيرة، بما فيها العربية ("الصمت"، ترجمة كامل يوسف حسين).
الرواية المنقسمة إلى جزئين، أول يتخذ شكل يومياتٍ كان المبشّر الشاب رودريغز قد كتبها لدى وصوله إلى اليابان، وثانٍ مكتوب بضمير الغائب، وفيها نتعرف إلى الشخصيات الأخرى، تستند إلى أحداث تاريخية جرت في القرن السابع عشر في اليابان، حين تعرّضت الكنيسة اليابانية، وأتباعها من كهنة ومؤمنين، إلى الملاحقة والاضطهاد من الأسياد المحليين، بهدف اقتلاع المسيحية من الأرخبيل، على اعتبار أنها عقيدة لا تلائم التربة اليابانية.
تحكي الرواية رحلة راهبين يسوعيين شابين برتغاليين، سيباستيان رودريغز وفرنسوا غاربي، اللذين قررا السفر سرا إلى اليابان، بحثا عن المبشّر، معلّمهما، الأب فيريرا، الذي اختفت أخباره، بعد أن قيل إنه ارتدّ عن دينه تحت التعذيب، قبل أن يتبنّى، عن اقتناع، وجهة نظر أعدائه في عدم تواؤم المسيحية والثقافة اليابانية. عند وصولهما عام 1638، تستقبلهما جماعات من الفلاحين الفقراء الذين اعتنقوا المسيحية، محاولة مساعدتهما، إلا أن أمرهما لن يلبث أن يُكتشف، فيُلقى القبض عليهما، ويساقان إلى السجن، حيث يخضعان لمطالب الأسياد المحليين الذين يريدون اجتثاث جذور هذا الدين المستورد.
طوال الرواية التي تصف رحلة عذاب الأب سيباستيان رودريغز، نستمع إلى كل الأفكار التي تتداعى في رأسه، هو الذي يمتثل بحياة الرجل الذي يحب ويبجّل، أي المسيح، مقتديا بقدرته على احتمال كل العذابات، واعدا نفسه بأنه لن يتخلى عن دينه، مهما اشتدّت عليه الآلام، ولن يدوس الأيقونة، كشرطٍ يُفرض على جميع المسيحيين، إثباتا لارتدادهم وحفاظا على حياتهم.
إلا أنه، وعلى خلاف ما كان يتوقع، سيجد أن الحاكم إينوى الذي أمر بسجنه رجل حكيم، هادئ، متعاطف، لا يشبه في شيء الوحش أو الطاغية الدموي الذي تخيّله، بل إنه حتى سيسمح له بالتواصل مع السجناء المسيحيين الآخرين، وحتى بالصلاة لهم ومعهم. وهو، أيضا، على خلاف الآباء الذين سبقوه الذين عُذبوا وعُلقوا فوق "الحفرة"، حيث تدلّت رؤوسهم، والدماء تقطر من ثقب صُنع خلف آذانهم، لن يتعرّض للتعذيب الجسدي، وإنما لعذابٍ من نوع آخر يفوقه قسوة، وهو جعله يستمع إلى أصوات المسيحيين المسجونين الذين يتعرّضون للتعذيب، وصولا إلى قتلهم.
وقد تكون من أجمل مقاطع الرواية هي تلك التي تصف لقاء رودريغز بالحاكم إينوى، وما يدور بينهما من نقاش، حيث يقول له هذا الأخير "نحن لا نجادل في صواب أو خطأ دينكم... فبعد تفكير عميق وجاد، وجدنا أن تعاليم المسيحية لا قيمة لها بالنسبة لليابان اليوم"، مشبّها بلاده بمستنقعٍ تتحلل فيه جذور المسيحية؛ وذاك الذي يدور بين الراهب الشاب ومعلّمه فيريرا، حين يخيَّر الأوّل بين أن يدوس الأيقونة أو أن يتم تعذيب المسيحيين وقتلهم. "اليابانيون المسيحيون لم يعبدوا إلهنا، بل إلههم...". يقول له فيريرا، "ليس بمقدور اليابانيين أن يفكّروا بإلهٍ مفارقٍ للإنسان تماما، فهم لا يستطيعون التفكير في وجودٍ يتجاوز ما هو إنساني".
وفي النهاية، وبعد أن عانى رودريغز ما عاناه، وهو يكرّر طرح السؤال - اللازمة نفسه: "إلهي، لمَ أنت صامت، لمَ أنت صامت دائما؟" حيال آلام البشر، وأمام إصراره على عدم الارتداد حفاظا على إيمانه، وذعره من جعل الآخرين يموتون بسببه، ينطق مسيح الأيقونة أخيرا، ويخاطبه قائلا: "ادهس! ادهس! إني أعرف خيراً من الجميع الألمَ الذي يعتري قدمك. ادهس! فقد جئتُ إلى هذه الدنيا ليدهسني البشر، حملتُ صليبي لأشارك الناس ألمَهم...".
هذا هو معنى صمت إلهه، ومثلما سبق أن قال له معلّمه فيريرا: "أنت مشغولٌ بخلاصك... فلو أن المسيح كان هنا، من أجل المحبة، كان سيرتدّ"...
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"