التنافس على الأموات

التنافس على الأموات

23 ديسمبر 2017
+ الخط -
لدى تركيا والإمارات أسباب عديدة للتصعيد المتبادل. لكن من كان يتوقع أن تستدعي تركيا القائم بأعمال السفير الإماراتي احتجاجاً على تغريدة؟ كان وزير الخارجية الإماراتي قد قام بعمل "ريتويت" لتغريدةٍ تُذكّر بنهب الأتراك، بقيادة فخر الدين باشا، المدينة المنورة وترحيل سكانها، مع تأكيد أن أولئك هم "أجداد أردوغان". وفي المقابل، رد أردوغان متسائلاً: "أين كنتم عندما كان فخر الدين باشا يدافع عن المدينة؟".
وسرعان ما ظهرت المدفعية التاريخية الإسلامية الثقيلة، ونشر الدكتور علي الصلابي قصة فخر الدين باشا مع إضفاء أبعاد أسطورية عليها، كوصفه بأنه فضّل أكل الجراد 90 يوماً، هو وجنوده، لكنه رفض أن يسلم المدينة لمحاصريها لأنه قال "لن أسلّم مكانا دفن فيه النّبي لكافر لا وضوء له" .
لدينا إشكاليات تاريخية عديدة، إذا دققنا في تفاصيل هذه الأطروحات الاختزالية. كان فخر الدين يحارب قوات الشريف حسين بن علي الهاشمي، شيخ من نسل علي بن أبي طالب، يقود قواتٍ مسلمة عربية بحتة، من دون أي وجودٍ لقوات أجنبية معهم، فمن أين أتى الصلابي بموضوع التسليم "لكافرٍ لا وضوء له"؟!
مفارقة تاريخية أخرى، أن تركيا وقتها أصلاً لم يكن لها علاقة بالخلافة إلا الاسم، بينما كانت تحت حكم (جمعية) الاتحاد والترقّي، حزب أتاتورك! في عام 1909، انتهت فعلياً أي سلطة للخلافة، بعد تنفيذ "الاتحاد والترقّي" انقلاباً على السلطان عبد الحميد الثاني، وتم عزله ووُضع بالاقامة الجبرية حتى مات، وتولى بعده محمد الخامس الذي أعاد الدستور، وبموجبه عقدت انتخاباتٌ اكتسحتها "الاتحاد والترقي" وشكلت الوزارة التي دخلت الحرب العالمية الأولى، وهي التي كان يخدمها فخر الدين باشا.
لم يكن فخر الدين يحمي المدينة، بل كان يحتلها! وقام بجريمة غير مسبوقة، حين قرّر تهجير كامل أهالي المدينة عبر قطارات الموت، لأنه يعرف تأييدهم الشريف حسين. وذكر موقع إلكتروني تركي القصة من زاوية أن فخر الدين أشفق على المدنيين من الحصار، فأخرجهم منها برفق واحترام. طبعا لم يكلف السيد (المؤرخ) الصلابي خاطره حتى ذكر "سفر برلك"، ولو بهذه الرواية أو التبرير، كأنها لم تحدث أصلا.
من المنطقي جدا أن يتفاخر أردوغان بهذا الماضي، وهو من يكرّر مراراً أنه يسير على درب أتاتورك، ومكونه القومي التركي يسبق أي لمسةٍ إسلاميةٍ بكثير، لكن المشكلة في باعة الوهم لجمهورهم.
نشاهد، على الجانب الآخر من القصة، صورة مختلفة تم إهمالها للشريف حسين: حاول الرجل أن يعلن خلافة عربية للمسلمين بديلة عن الخلافة التركية، وقد أعلن نفسه أميراً للمؤمنين في 1922، وطالب بريطانيا بالاعتراف به، ولعل هذا من أسباب ترك الإنكليز له فريسةً لأعدائه من آل سعود، فرفضوا مساعدته، في حربه المريرة ضد الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، وانتهى به الحال منفياً طريداً.
وفي كلتا الحالتين، تم تجاهل حقيقة أن كلا منهما ابن سياق تاريخه الذي كان يشهد الحرب العالمية الأولى. كان الشريف حسين مدعوماً من الإنكليز، وبرفقته "لورانس العرب"، بينما كان الأتراك متحالفين وقتها مع ألمانيا والنمسا والمجر وبلغاريا.
يمنحنا المشهد كله نموذجاً جديداً لحالة السياسة في منطقتنا وطريقة النظر إلى تاريخنا، فبدلاً عن تبادل الإمارات وتركيا الهجوم بالملفات السياسية التي لا تنقصها الخلافات الحادة بينهما فعلاً، يتم اللجوء لصورةٍ عاطفيةٍ، فيصبح أردوغان حفيد فخر الدين باشا الذي فعل بنا كذا وكذا، ويصبح الإماراتيون أحفاد الشريف حسين الذي تحالف مع الإنكليز! وبدلاً من أن يكون التاريخ مادة دراسةٍ وتعلم، يتم اختزاله واختيار زوايا محدّدة فيه، وإسقاطه بشكل حاد على الواقع. وهكذا فجأة يختفي قرن من الزمان، لنصبح، الآن وهنا، مازلنا في الثورة العربية الكبرى ضد الخلافة العثمانية، ويتحوّل التاريخ مادة للبروباغاندا السياسية، بل المكايدة السياسية أيضاً.