متلهفون للتطبيع

متلهفون للتطبيع

18 ديسمبر 2017
+ الخط -
شن وزير خارجية مصر الأسبق، عمرو موسى، قبل ربع قرن، هجوماً على الدول التي تتخذ إجراءاتٍ للتطبيع مع إسرائيل. وانتقد بحدة ما وصفها بـ"الهرولة" نحو إقامة علاقات مع إسرائيل. وكان لهذا التعبير وقع شديد في اتجاهات متباينة. من تزايد شعبية موسى بين عوام العرب، والمصريين خصوصاً، إلى تفاقم النقمة عليه من إسرائيل واللوبي الموالي لها في الدول العريبة، غير أن القاعدة التي استند إليها موسى، وهو ينتقد "الهرولة"، لا تزال سارية، وإن حاول بعضهم تجاهلها والقفز عليها، وهي أن الأصل في الأشياء ليس المجانية، وإنما لكل شيء مقابل.
ما قد ينساه بعضهم أو يحاولون تناسيه وتجاوزه، أن الهرولة التي لم تعجب عمرو موسى قبل ربع قرن كان مبرّرها، حينئذ، أن إسرائيل دخلت مع العرب في مفاوضات سلام، وأبرمت بالفعل اتفاقاً نهائيا مع الأردن، وآخر مبدئيا مع الفلسطينيين.
بالتوازي مع هذه الخطوات، قبلت الدول العربية إجراء مفاوضات متعدّدة الأطراف تكون إسرائيل جزءاً منها، بهدف التوصل إلى اتفاقات تعاونٍ إقليمي في مجالات متعدّدة، منها التجارة والسياحة والمياه، وغيرها. أي أن عملية التفاوض السلمي بين العرب وإسرائيل كانت في بداياتها، وكانت هناك بوادر إيجابية من وجهة النظر العربية، استناداً إلى الإشارات الإسرائيلية بشأن قبول مبدأ "الأرض مقابل السلام" وتطبيقه أساسا معياريا لكل مكونات العملية التفاوضية ومراحلها.
وعلى الرغم من ذلك كله، كانت أغلبية الدول العربية حريصةً على عدم خلط الأوراق أو حرق المراحل. وكان هناك تنسيق وتفاهم بين الدول المعنية مباشرة بمجريات الصراع مع إسرائيل، والتي عرفت وقتئذ باسم "دول الطوق".
وكانت مواقف تلك المجموعة وتفاهماتها مدعومة من بقية الدول العربية. ما أفرز توجها عربيا عاما بضرورة التأنّي، وعدم الاندفاع نحو مفاوضات التعاون الإقليمي، انتظاراً لما ستسفر عنه المفاوضات الثنائية بين إسرائيل وكل من الأطراف العربية التي لها أراض محتلة (سورية، لبنان، الأردن، فلسطين).
على هذه الخلفية، كان تصريح عمرو موسى الشهير بمثابة تعليقٍ للجرس في رقبة القط، ومحاولة لتهدئة وتيرة تقارب بعض الدول العربية مع إسرائيل، لضبط إيقاع المسار السياسي برمته، خصوصا في ظل ما هو معروف مسبقاً أن هدف إسرائيل النهائي ليس الاكتفاء باتفاقات سلام ثنائية مع الدول التي لها أرض تحت الاحتلال، وإنما الوصول إلى علاقات طبيعية كاملة مع تلك الدول، وكذلك مع الدول العربية الأخرى التي ليس لها أرض محتلة، ولا مشكلة ثنائية مباشرة لها مع إسرائيل.
الدرس المهم في استذكار تلك المرحلة التي لم يمر عليها ربع قرن، أن الاندفاع نحو إقامة علاقات مع إسرائيل يجب أن يستند إلى أسسٍ قويةٍ تُبرر هذا التقارب المفاجئ المستحدث بين بعض الدول العربية وتل أبيب وتفسّره. بل ربما هو قائم منذ سنوات، وليس مستحدثاً، لكنه يتكشف الآن فقط، حسبما تشير المعلومات والتسريبات الإسرائيلية نفسها. ليس فقط فيما يتعلق بالعلاقة مع السعودية، فوفقاً لبنيامين نتنياهو، لتل أبيب تعاونٌ غير معلن في مجالاتٍ متنوعة، مع معظم الدول العربية.
لم تكن الهرولة نحو التطبيع مقبولة، عندما كانت العملية التفاوضية تسير بشكل مقبول. والآن، بعد تلك السنوات، وثبوت أن مسيرة التسوية السلمية برمتها ليست سوى عملية عبثية، قوامها التفاوض من أجل التفاوض. بينما يتغير الواقع على الأرض إلى الأسوأ، بتهويد الأرض وتشريد أصحابها. فبأي حُجةٍ، وتحت أي عنوان، يمكن تفسير تلك "اللهفة" على التطبيع، وإقامة علاقات أو كشف الغطاء عن علاقات قوية قائمة أصلاً؟
ولما كان الأصل في الأمور أن لكل شيء ثمنا ومقابلا، وإذ لم (ولن) يحصل الفلسطينيون ولا العرب، على مقابل السلام الذي عرضوه على إسرائيل في المبادرة العربية، فأي مقابل سيحصل عليه أولئك المتلهفون على التطبيع مجاناً مع تل أبيب؟

دلالات

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.