المغرب والنموذج التنموي المنشود

المغرب والنموذج التنموي المنشود

23 نوفمبر 2017
+ الخط -
كل خطابات ملك المغرب، محمد السادس، موصولةٌ ببعضها، براغماتية وواضحة، ولا يحتاجُ المرءُ للترافعِ ليؤكدَ المؤكدَ والثابت، سيما أن العِبْرَةَ دوماً بالنتائجِ، وبالخواتمِ أيضاً، وأيضاً. وفي خطابه أمام الجهاز التشريعي (13 أكتوبر/ تشرين الأول 2017)، لَوحَ بمواقف، في مقدمتها الدعوة إلى إعادةِ النظرِ في "النموذج التنموي القائم"، بما يعني مراجعة "الاختيارات التنموية السائدة".
صحيحٌ أن هناك ما يشبه الإجماع على "تشخيصِ الأوضاع القائمة"، وأيضاً فيما يَخُص ما تعلنه معطيات هذا التشخيصِ من "نواقيس الخطر" على الصعيدِين، الاقتصادي والاجتماعي، تحديداً. بيد أن ترابطَ المستوياتِ وتفاعلَها، يلقي أيضاً بالصعيدين السياسي والثقافي في معمعةِ هذه المراجعةِ واستحقاقِ التشييدِ المنشودِ للبديلِ التنموي المغربي النهضوي، بما يُبقي المغرب في عصره، ويجنبه ما يصعبُ توقعه من انحساراتٍ أكثر حدة، في محيطٍ محلي وجهوي ودولي، لا ولنْ يرحمَ الضعفاءَ والمستضعفين، في الأمدِ القريبِ، قبل المتوسطِ والبعيد.
أجاب هذا الخطاب، بخصوص الحاجة إلى مشروع تنموي بديل، عن السؤالِين؛ لماذا؟ ومن أجل ماذا؟ ويمكن تلخيص الجواب في عبارةٍ واحدة؛ لم يَعُدْ في مستطاع النموذج التنموي القائم في المغرب استيعاب كل الحاجياتِ والتطلعاتِ والقدراتِ والأماني لدى خُمُسِ المغاربةِ، وهم شبيبتنا، في الحواضرِ والبوادي (...)، كما لم يعد قادراً على تجنيب المغرب "كًرْدَة الدين الخارجي" وتبعاته، وتحسين أوضاع كل فئات الشعب في القرى والمدن، وضمان انخراط المغرب شريكا فاعلا في الاقتصادات الإقليمية على الأقل، بما يؤهله لاسترجاع إشعاعه الحضاري والتحكم المستدام في زمام أموره.
وفي المقابلِ أيضاً، لم يبقَ لهذا النموذجِ التنموي الموروثِ والمُرَقعِ مع الوقت، أي مُتسَعٍ لتقبل استمراريةِ ذات العلاقة بين أجهزة الحكم والنخب المختلفة في إطار ما يُعرفُ بالطاعة أو العصيان في مقابل الامتيازات، وكذا كل ما يرتبطُ بالريعِ والإثراءِ غير المشروع، وبالوجاهةِ والنفوذ الممنوحين.
ولن أُسْهِبَ أكثر في التشخيص، على الرغم من أن لكل تشخيصٍ مرجعية فكرية ما ينطلقُ منها، وكذا رؤية اجتماعية وسياسية تُوَجهُ مسار أي تشخيص. ولا بد في أي تشخيصٍ لأوضاعِ أُمةٍ ما، يتوخى وَضْعَ الأٌصبعِ على مَكْمَنِ الداءِ، أنْ يحددَ بدقةٍ ووضوحٍ الأسبابَ الحقيقيةَ لهذا الداء، بكثيرٍ مِنَ الموضوعيةِ والشجاعةِ العلميةِ والأخلاقية.
التشخيصَ الصحيحَ والسليمَ لوضعٍ أو حالةٍ ما، لا يسهلُ أو يمهدُ الطريقَ السديدَ لمعالجةٍ صحيحةٍ وسليمةٍ فقط، ولكنه يُلزمه أيضاً باستئصالِ أسبابِ الداءِ، وعدمِ السقوطِ في أخطاءٍ أو اختياراتٍ من قبيلِ الاكتفاء بمعالجةِ الأعراض وتسكين الآلام إلى حين.
هذه واحدة، أما المسألة الأخرى فلعلها موصولة في حالتنا بالسؤالين؛ كيف؟ وبماذا؟ أي بالمنهجيةِ من جهة، وبالوسائل والأدوات من جهة أخرى، الكفيلة بمعالجة أسباب الداء أو الداء من أساسه، وببلوغ الأهداف والغايات المرسومة والمتوخاة، في آن واحد.
وبخصوص المنهجية، لا شك أن العقلانية والتشاركية العميقتين تشكلان المفتاح والمدخل، في بلورة أي مشروع ينشد النجاح بصفةٍ قابلةٍ للتنفيذ، وكذا للتقييمِ والتقويمِ المستمرين.. مقاربة عقلانية من خلال إسنادها الأطر الوطنية النزيهة والعلماء الأصلاء، وتشاركية تفاعلية مع السكان أولاً، ومع الجامعات والمعاهد والهيئات السياسية والنقابية والأهلية ثانياً، وذلك فيما يشبه الحوار الوطني الشامل.
أما الوسائل والأدوات، فهي، في كل الأحوال، الموارد والثروة البشرية وأجهزة ومؤسسات وموارد الدولة المادية وغيرها. بيد أن الأمر، وهو يقتضي تجنيد الوسائل المناسبة لبلوغ الأهداف المنشودة، يتطلب أيضاً تأسيس هيئة حكومية وطنية تسهر بصفة تنسيقية أفقية على المتابعة والتنفيذ، على المصاحبة والتصحيح في إبانه، وعلى التنسيق بين مختلف المتدخلين والشركاء في المشروع، من الحكومة والجهاز التشريعي وهيئات الحكامة ومراكز الاستثمار، إلى كل الهيئات المنتخبة والقطاع الخاص والجمعيات وتنظيمات السكان في عين المكان.
ربط المسؤولية بالمحاسبة، القضاء النزيه والمستقل والعادل، الاستناد المبدئي الدائم إلى العلم والمعرفة والتقنية، وإلى بوصلةِ الابتكارِ والإبداعِ والاختراع، مع التوزيعِ المجالي والاجتماعي العادل والإنساني للثرواتِ الوطنيةِ وفوائضِ القيمةِ المُحَصلَة، وللخدماتِ الأساسيِة في إطارِ منظومةٍ اجتماعيةٍ قويةٍ للإنصافِ والمساواةِ وتكافؤِ الفرص. ليست هذه الأمور فقط ضرورية وحاسمة في أي مشروعٍ مجتمعي تنموي ينشدُ التقدمَ والازدهارَ المشتركَ والمتشاركَ بين كل فئاتِ الشعبِ وبين أجيالِ المغربِ الحاليةِ والمقبلة. ولكن، علاوة على ذلك، ينبغي النظر إليها باعتبارها منطلقات العمل والطريق السالك إلى تشييدِ المغربِ المتحررِ من كل عواملِ وأسبابِ الاعتمادِ على الغيرِ، والارتهانِ للانحصاراتِ البنيويةِ والظرفية، في آنٍ واحد.
يمكن لهذه الهيئة الحكومية الوطنية الساهرة بصفة تنسيقية أفقية على المتابعة والتنفيذ، أنْ تُعالجَ ما يُعرفُ بتقاذف المسؤوليات بين قطاعات الدولة، وأنْ تَتغلبَ على التشتت الذي يطبع بعض المسائل الحيوية في نَسَقِ الهيكلة الحكومية الموروثة، كالمسألة المائية مثلاً، وأنْ تُسرعَ الأداء وتُحسنَ المردودية، وتُوضحَ المسؤوليات والمحاسبة معاً، وأنْ تُؤسسَ، في المستقبل القريب، لنسق هيكلة حكومية أكثر تجميعاً للمسائل الوطنية الحيوية، وأقوى نجاعةً في التدبير والتسيير والتقييم والتقويم المستمرين.
محمد الفرسيوي
محمد الفرسيوي
محمد الفرسيوي
كاتب من المغرب.
محمد الفرسيوي