على ضوء استقالة الحريري

على ضوء استقالة الحريري

13 نوفمبر 2017
+ الخط -
كُل قلوبِ الناسِ جنسيتي/ فلتسقطواْ عني جوازَ السفر
محمود درويش، الشاعر الراحل الكبير، صاغ العباراتِ الرائعةِ، مُعَرفاً ومُحَدداً هويته الفلسطينية الإنسانية المُصادَرة من الاحتلال، بجغرافيةِ الحب الذي في قلوبِ كل ساكني هذه الأرض. أما جواز السفر، عنوان القصيدة، فيختزلُ تأشيرة الدخول إلى بلد آخر، بما يترتبُ عنها من آلامِ الغربة عن الوطن. هنا، الهويةُ الوطنيةُ الإنسانيةُ هي من يحددُ الجنسية، ويشكلُ جوهرَ الانتماء.
لكنني هنا والآن، وأنا أُمهدُ بهذه العباراتِ الرائعةِ التي أضفتْ عليها ألحانُ وإيقاعاتُ الفنانِ القديرِ مارسيل خليفة روعةً وعمقاً إنسانياً جميلا، أستحضرُ حكايةَ سعد الحريري ومحنةَ بلدِ الأرز مع الجنسيةِ تحديداً، سيما وأن ظاهرة التجنس/ التجنيس بجنسياتِ البلدان الأجنبية، في المغرب مثلاً، عادت لتستقطب جهودَ وإجراءاتِ بعضهم، بصفة ملحوظة.
لا أستطيعُ التنبؤ بنهاية حكاية الحريري، لا مع الجنسية السعودية أو الفرنسية أو أخريات في علم الله، ولا مع الاستقالةِ المُتلفزةِ أو عن بعدٍ من مهام رئاسة الوزراء في لبنان، بيد أنه في مُتناولي النبش في ذاكرةِ التاريخ الحديث، بحثاً عن سِر ولغزِ هذه الظاهرة المثيرة والغريبة في الحالة المغربية على الأقل.
نوازلُ التاريخ ووثائقه، تدلنا مثلاً على أن نظام الحماية الاستعماري في المغرب تطور تدريجياً وتصاعدياً، من "حماية الأفراد" إلى فرض "الحماية على الدولة"، وذلك منذ الاتفاقية الموقعة في سان جرمان بين المولى إسماعيل ولويس الرابع عشر سنة 1682، مروراً بالمعاهدة مع بريطانيا سنة 1856، وانتهاءً بإحكام الحماية على الدولة المغربية بداية القرن العشرين.
طلب "الحماية القنصلية" لبريطانيا وفرنسا وإسبانيا وغيرها، والذي قدمه بعض أعيان المدن من التجار، والبوادي من الفلاحين وغيرهم، وكذا بعض زعماء الزوايا، تطور في عهد المولى عبد العزيز بحصولِ الرجل الثاني في الدولة آنذاك (وزير الحربية المهدي المنبهي) على "صفة مَحْمِي سياسي إنجليزي سنة 1901"، حيث "استغل هذا الوضع القانوني لتأمين نفسه وممتلكاته بعد إبعاده سنة 1902".
في التاريخ دوماً كل الدروسِ والعبرِ المفيدةِ للحاضرِ والمستقبل. وفي سياقِ هذا الاستحضار، أتساءل: لماذا تتواصل فينا "ظاهرة الاحتماء بالأجنبي"، بطرقٍ وأشكالٍ وتعبيراتٍ شتى، في القرن الواحد والعشرين؟
اليوم، في عاصمة المغرب والمدن الكبرى، لم يعدْ يمر شهر أو أقل، دون أنْ تسمع أن فلاناً قد سافر بزوجته الحامل إلى كندا أو الولايات المتحدة الأميركية، لتلد هناك مولوداً يحظى بجنسية أحد البلدين، على الرغم من التكلفة المالية الباهظة للإقامة والولادة في البلدين. المهم أنْ يقتحمَ الجنين هذه الدنيا مُدججاً بسلاحِ الجنسية الكندية أو الأميركية؟
هذا بالنسبة لبعض الأسر المحسوبة على الفئات المتوسطة أو العليا بالبلد، أما فيما يتعلق بجزءٍ من الأثرياء ورجال ونساء الأعمال أو المرتبطين بالأجنبيات، فالمسألة باتتْ عُرفاً سارياً ومُوضَةً جارية.
أصحابُ وصاحباتُ الجنسياتِ المزدوجةِ أو بصيغةِ التعدد، يتناسلون بيننا، كل "يَحرق" بطريقته، وحدهم الفقراء مَنْ يُرابطون بالوطن، وإنْ عَبَرُواْ أحياءً إلى البلاد الأجنبية، فمِنْ أجلِ "لقمة العيش" والعودةِ للوطن بما ادخروه كدحاً وشقاءً وغربة.
أتمنى للبنان الشقيق أنْ يتجاوزَ ما يحدقُ به، وللسيد سعد الحريري أنْ يحسمَ في انتمائه وأنْ تُفك عقدته. أما نحن المرابطون والمرابطات بأوطاننا، فإن أنبل ما نملك هو أنْ نرددَ، إنشاداً ونشيداً، مع محمود درويش، وعلى إيقاعاتِ مارسيل خليفة، بضميرِ الأنا الجمععي: كل قلوب الناس جنسيتي فاسقطواْ عني جواز السفر.
محمد الفرسيوي
محمد الفرسيوي
محمد الفرسيوي
كاتب من المغرب.
محمد الفرسيوي