التطرّف الجديد ليس دينياً

التطرّف الجديد ليس دينياً

13 نوفمبر 2017
+ الخط -
تناولت مقالة الأسبوع الماضي (6/11) نمطاً جديداً من مرتكبي العنف، المجتمعي والسياسي. وهو نمط الإرهابي "الجنتلمان" الذي يبدو شديد الأدب والتحضر، ليس فقط في أثناء استعداده لارتكاب جريمته، لكن في مختلف مراحل حياته، فتبدو عملية القتل أو الدهس التي يقوم بها لحظةً استثنائية، يعود بعدها كما كان، شخصاً هادئاً ناعماً، منسجماً مع ذاته والبيئة المحيطة به، وراضياً عن نفسه كل الرضا، حتى وهو يعلم أن مصيره الإعدام أو السجن مدى الحياة.
جديد اليوم أن ثمة قاسماً مشتركاً بين هذا الجنتلمان العنيف وذاك الإرهابي التقليدي القديم. وهو أن كليهما يعتنقان فكراً متطرّفاً ورؤية سوداوية للحياة. إلى حد اليأس من إمكانية "هداية" البشر وجذبهم إلى الإيمان بما يعتبره هؤلاء "صحيح الدين"، فيصبح البشر مسلمين و"كفاراً" غير قابلين للإصلاح، من وجهة نظر هؤلاء. ومن ثم يجري التعامل معهم بلا مبالاة، ومن دون حماسة أو غضب، لا منهم ولا من أجلهم.
الفارق بين هؤلاء المُكفّرين الجدد وأولئك القدامى، ليس في دوافع التكفير أو الأفكار التي تشيطن المجتمع، وإنما في أن التقليديين كانوا يفسحون المجال للمجتمع المحيط بهم، عبر الاستتابة. أما الجدد فلا يبذلون أي جهد لتصحيح أو استعادة.
وكلما زادت مظاهر البعد عن الدين أو الانحلال، في نظر هؤلاء المتطرّفين، ازدادوا يقيناً أن لا أمل يُرتجى في هذه البشرية جمعاء، إلا مَن آمن منهم، واتبع الطريق المستقيم، الذي هو طريق هؤلاء، لا غيره. والمفاجأة أن هذه الطريق قد لا يكون بالضرورة طريق الدين، فعملية التكفير والعزلة عن المجتمع لم تعد مقصورةً على المتطرّفين من المسلمين، بل صارت موجودةً، وتنتشر لدى غير المسلمين أيضاً، خصوصاً الشباب في المجتمعات الغربية، وإن اختلفت الأسباب والدوافع. ويؤكد ذلك تكرار حوادث العنف التي تقع في الولايات المتحدة الأميركية ودول غربية أخرى.
وعلى الرغم من اختلاف حالات استخدام العنف وظروفه، وسقوط ضحايا، إلا أن الثابت فيها هو استسهال اللجوء إلى السلاح عقابا أو للتعبير عن الغضب والاستياء من موقف معين، أو رد فعل على مشكلة شخصية. وفي كل الأحوال، يعكس اللجوء إلى العنف واستخدام السلاح يأساً من جدوى الوسائل الأخرى، لحسم المواقف، أو حل المشكلات، سواء فردية أو عامة.
وبعد عقود من ربط التطرّف الفكري والديني بتردي الأوضاع الاقتصادية، بات جلياً أن كثيرين من المتطرّفين ومرتكبي أعمال العنف في مختلف المجتمعات، لا يعانون أي مشكلات اقتصادية، ولا يواجهون صعوبات حياتية. بل إن كثيرين منهم يعانون من ملل الرفاهية، فيبحث عن أفكار غريبة أو خطوات غير تقليدية، بحثاً عن التغيير والتطوير، حتى وإن كان في اتجاه سلبي من وجهة نظر المجتمع المحيط.
"تكفير" البيئة المحيطة والانعزال عنها داخلياً، لم يعد مسألة دينيةً، فضلاً عن أن تكون إسلامية. وأصبح العالم أمام ظاهرة تطرّف، يصل إلى حد التكفير اجتماعياً ونفسياً، تفضي بدورها إلى عزلة تراكم الانفصال عن المجتمع، وتعمّق الفجوة معه.
ولما كان التكوين الفكري والنفسي للشباب نتاج التربية الأسرية والمجتمعية، تقع المسؤولية في حدوث تلك الفجوة على المجتمع، بمختلف مستوياته، سواء الرسمية ممثلة في الدولة والمؤسسات التعليمية والتثقيفية، أو الأهلية بدءاً بالأسرة، مروراً بالمؤسسات الدينية، سواء المساجد أو الكنائس التي يفترض أنها تغذّي الجانب الروحي، وتسهم بقوة في التشكيل الوجداني والعقائدي.
ليس منبع التطرّف والعنف والإرهاب في الدين أو الثقافة أو الحالة الاقتصادية، وإنما هي البيئة المجتمعية التي تغلق منافذ الحوار، وتفرض قوالب جامدة، لا تراعي متطلبات العصر، ولا طموحات الشباب. فيذهب إلى كل غريب ومُستحدث، بحثاً عن الإنجاز والرضا الذاتي على المستوى الفردي، وتحرّي العدالة وإنفاذ الحق قيما مطلقة منتهكة على المستوى العام.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.