أنا عبقري والعياذ بالله

أنا عبقري والعياذ بالله

15 أكتوبر 2017

(نبيل المالح)

+ الخط -
أنا رجل ذكي، وفهيم، وأوشك على الزعم بأني عبقري، والعياذ بالله! حزتُ على شهرة واسعة، بوصفي كاتباً قصصياً وتلفزيونياً وإذاعياً، وصحفياً مخضرماً، صاحب "قلم بينَقِّطْ سَمّ"، على قولة ابن بلدنا المرحوم غازي بَرَّاني، وأخيراً دخلتُ عالم الشعر بقصيدة حازتْ على شهرة واسعة عنوانُها "أحبُّكِ في أوقات الفراغ"، أُعْجِبَ بها لفيفٌ من الأصدقاء المبدعين، منهم رئيس تحرير "العربي الجديد"، الشاعر بشير البكر، الذي قال لي إن وجه الحلاوة في قصيدتك أن المرء يمكن أن يقرأها في أوقات الفراغ، ولا سيما إذا كان مشغولاً على الدوام.
لا يصلح المبدأ الذي أَتَّبِعُه في الحياة للتطبيق في بلاد العرب والمسلمين المناضلة، المكافحة، المجاهدة، وهو أن الفُخَّار يجب أن يكسّر بعضه، وأن كل عنزة تُعَلَّق من عُرْقُوبها. ولذلك أنا أعارض التلقين، والتوجيه، والتوعية، والإرشاد، واللحمة الوطنية، والتفاف الجماهير حول القائد المفدى.. وإذا رأيتُ أحداً يضربُ أحداً، حتى ولو كان المضروبُ ابنَه، أو ابنته، أو أخته، أو زوجته، أو صاحبَ رأي مخالف لرأيه، أحقدُ عليه، وأستهجنه.. لا أحب الوعظ ولا الخطابة، وحينما يردّدُ أحدُ الناس أمامي شيئًا مما يُقال إنه شعر كقولهم "العبدُ يُقْرَعُ بالعصا والحُرُّ تكفيه الإشارة" أمتعضُ، وأشمئزُّ، وأنفرُ، وأقول في سري مخاطباً هؤلاء الناس إنكم جئتم برجل ولدتْه أُمُّهُ حراً، ولم تكتفوا بأن خالفتُم نصيحة عمر بن الخطاب واستعبدتموه، بل زدتم عليه بالاحتقار، واتهامه بأنه لا يستوي ولا يزدجر ولا يرعوي إلا إذا ضُرِبَ بالعصا. وبدلاً من أن تعتقوه، وتعتذروا منه عَمَّا بدر من أسلافكم حينما اسْتَرَقُّوه، رحتم تتبرأون منه ومن أخلاقه، بدليل ما قاله الشاعرُ الذي أراد أن يفسر التناقض بين عنجهيته وتعاليه على الناس وكرمه وتواضعه أمام ضيفه، فقال:
وإني لَـ عَبْدُ الضيف ما زال ثاويـــــاً/ وما شيمةٌ لي غيرها تشبهُ الـ عبدا
ولأنني رجل عبقري، العقبى لكم، فقد استطعتُ أن أعيش في سورية حافظ الأسد حتى بلغتُ التاسعة والخمسين من عمري، من دون أن أدخل سجناً أو معتقلاً. وفي مطلع سنة 2011 شاركتُ في الثورة السورية، وأمضيتُ في بلاد النضال والكفاح والجهاد حتى أواخر 2012، ومع ذلك لم أُقْتَلْ، مع أن جماعة ابن حافظ الأسد منعوني من السفر، وعمّموا اسمي على الحواجز، وقصفوا أماكنَ كنت آوي إليها بالمدافع والصواريخ (هذا كله قبل دخولنا في عصر البراميل).. ولكنني، ذات مرة، قرأت قولاً منسوباً للعالِم أينشتاين، إن شيئين لا حدود لهما: الكونُ وغباء البشر.. فاستنتجتُ أن الذكاء محدود، أو أنه، مثل سُلَّم الرواتب في سورية الأسد، مَسْقُوف.. لذا لم يستطع عقلي أن يفهم كيف تحولت نجاتي من الاعتقال إلى مَذَمّة، إذ كلما كتبتُ وجهة نظر تتعلق بما يجري في مدينة إدلب وريفها، ينبري لي أحدُ الإخوة المجاهدين قائلاً إنه ليس من حقي التدخل، لأنني، أولاً، موجودٌ خارج البلاد، وثانياً، كنتُ مع نظام الأسد؛ بدليل أنني لم أُعْتَقَلْ ولا مرة.
منذ مدة ليست قصيرة، بدأتْ ثقتي بذكائي تتراجع، حتى أصبحتُ أعتقد أنني، على قولة أهل حلب، طَشَنة. فقد احتججتُ، مرة، على عدوان هيئة فتح الشام على الحرية الاجتماعية في إدلب، وإجبار النساء على توسيع الثياب وإطالتها لتُخفي وجهَ المرأة وجسمَها وساقيها حتى الكاحلين، فكتب لي أحدُهم: نحن لا نأتي بشيء من عندنا، نحن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، هل أنت ضد "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"؟
قرأتُ، أخيرا، الدفاع النبيل الذي قدمه الصديق ياسر السليم عن الفتى الكفرُّومي الذي قرّرت جبهة النصرة قتلَه لتورّطه بسب الدين، وكانوا يقولون لياسر بصوت واحد كأنهم جوقة مسرح: الشيخ ابن تيمية أفتى بقتل مَنْ يسب الدين، فهل أنت أفهم من ابن تيمية، يا ياسر السليم؟
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...