الصوفي والحشّاش وصاحب البندقية

الصوفي والحشّاش وصاحب البندقية

28 سبتمبر 2016
+ الخط -
عادت ما تختلف ردود أفعال الناس، في الأزمات الكبرى، بحسب الطباع والثقافة والتنشئة، وأمور أخرى كثيرة، فمن الناس من لا تحتمل نفسه بؤس الواقع ومرارة الحقيقة، فيبحث عن مخرج أو مهربٍ، ليُبقي الواقع طي النسيان. وتختلف في ذلك أشكال الهروب، إلا أنّ الرابط الجامع بين هذه الأشكال المتعدّدة هو تهميش المشكلات الرئيسية، وإعادة تأويل الواقع ليتكيّف مع شكل المهرب الجديد.
عقب حضرة صوفية، قادتني إليها الظروف على غير ترتيب مسبق، قال لي أحدهم، وهو في منتصف الثلاثينات، "احنا سيبنا الدنيا ورا ضهورنا". استوقفتني جملته كثيرًا. لم تكن الدنيا مع هذا الرجل يومًا لكي يتركها، فأنا أعرفه جيدًا بجلبابه نفسه، وبهيئته التي لم تتغيّر نحو عشر سنوات. ذلك الرجل الذي لم يتلقّ أيّ تعليم في مدرسةٍ حكوميةٍ مهملة في مركز مهمّش في محافظة منسية في صعيد مصر، ولم يتلق أيّ رعاية صحية، بل لم يتوفر له يومًا الحد الأدنى من العيش الكريم، من مأكل ومشرب ومسكن. لم تكن للدولة أي أثر إيجابي يذكر، في حياة هذا الرجل، تلك الدولة التي كان أحد مقوّمات وجودها يومًا ما هو توفير الحياة الكريمة لمواطنيها. أصبحت حلقات الذكر والكلام عن الزهد في الدنيا سلوى ذلك الرجل، فبدلًا من مواجهة حقيقة أنّ حفنة من اللصوص سرقوا حق هذا الشاب، ودمّروا مستقبله، وتركوه يغرق وسط أمواجٍ من الذل والهوان، بينما هم يتنعمون فيما نهبوه وسرقوه، تمّ استدعاء القدر ليغلّف الحقيقة بغلاف الزهد والترك. أصبحت الحضرة الصوفية مهربًا من الحقيقة، لا مهربًا إليها، وأفيونًا منومًا، لا موقظًا من الغفلة.
ولا يعني هذا أنني أرى في التصوّف منومًا ومغيّبًا عن الواقع، بل ما أريد تسليط الضوء عليه هو نمط تعاطي بعضهم مع التصوف، فعلى سبيل المثال، حين يصفح المرء عمن ظلمه، وهو قادر على القصاص منه، فهذا هو الصفح الحقيقي. ولكن، حين يعلن المظلوم أنه سامح من ظلمه، وهو، في حقيقة الأمر، عاجز، كل العجز، عن أخذ حقه، فهذا لا يسمى صفحًا ولا تسامحًا، بل عجزًا. كذلك الأمر في الزهد، فأنت تزهد فيما أنت قادرٌ على امتلاكه، لا فيما ليس بينك وبينه أي سبيل.
لم يختلف الأمر كثيرًا عند صديقنا صاحب البندقية، وهو شاب حمل على كاهله مسؤولية التغيير ونصرة المظلومين، لكنه سرعان ما اصطدم في طريقه بألوان الظلم والبطش والقسوة. وبينما كان يفترض للجهاد أن يكون ذروة الشهود واليقظة والتجرّد للحق، بحيث تنكشف حقائق الأشياء، أصبح الجهاد مطيةً للهروب من المسؤولية، مسؤولية الإلتزام بالميزان وأصبح مجرّد وسيلةٍ للانتقام، وتجسيدًا لعبادة القوة، تحوّل إلى ستار يهرب المرء وراءه من تحمّل عظم الشهادة وثقلها، وأصبح مساحةً يمارس فيها صديقنا كل أهوائه الإنتقامية، ويعيد إنتاج كل مظالمه على ضحايا آخرين.
ومرة أخرى، لا أتحدّث، هنا، عن الجهاد بشكل عام، لكن هناك فارق كبير بين جهاد الحق وجهاد الهوى، بين أن يكون جهادًا متجرّدًا عن حظ النفس وأن يكون متمحورًا حول الانتصار للنفس.
في المشهد الثالث، كنت خلف صديقٍ لي على دراجته النارية، حينما أتى إليه شاب آخر. عرفت، بعد لحظات، أنه ديلر، ليبتاع منه الحشيش. كان صديقي أصدق الثلاثة، فقد ردّ عليّ حين سألته: "ايه اللي رماك على السكة دي؟" بـ "عايزين ننسوا الدنيا يا عم وائل". هكذا كان رده بكل بساطة. لم يتحجّج بالكيف والمزاج وهذه النوعية من الحجج، لكي يضحك بها على نفسه وعلى الآخرين، هو يريد الهروب من الواقع، ولو ساعات، يريد أن ينسى وأن يُنسى.
لم يختلف صديقانا، الأول والثاني، عن صديقنا الثالث. فلكلّ واحد منهم طريقته الخاصة للهروب، وإن اختلفت الصور إلا أنّ النتيجة والنهاية واحدة.
3D6A974F-9F79-41B4-B562-13D3F8546488
3D6A974F-9F79-41B4-B562-13D3F8546488
وائل عواد (مصر)
وائل عواد (مصر)