واشنطن تكذب ولا تتجمّل

واشنطن تكذب ولا تتجمّل

29 اغسطس 2016
+ الخط -
"أنا لا أكذب ولكني أتجمل"، رواية لإحسان عبد القدوس جسّدها أحمد زكي على الشاشة في ثمانينيات القرن الماضي. فكرتها الأساسية كيف يبرّر المرء لنفسه الكذب بأنه فقط "يتجمّل"، لكي يخفي واقعاً سلبياً. ومع انكشاف الكذب، يصير منظره أقبح كثيراً من واقعه الأصلي.
في السياسة، كثيراً ما يلجأ الساسة والدول إلى ذلك الكذب/ التجمّل، وتقدّم الولايات المتحدة الأميركية نموذجاً خاصاً للكذب السياسي. فهي تلجأ إلى الكذب، من دون مبرّر حقيقي، بما في ذلك المصالح الأميركية ذاتها. فكثيراً ما تبدي غير ما تبطن من مواقف أو سياسات في قضيةٍ معينةٍ، أو تجاه دولةٍ ما، على الرغم من أن المصلحة الأميركية تقتضي غير ذلك. فسر بعضهم ذلك السلوك بنفوذ اللوبي الإسرائيلي، وقدرته على ترويج أهداف ومواقف تل أبيب، فيتبناها الساسة الأميركيون، سواء في الكونغرس، أو في البيت الأبيض، ويدافعون عنها كأنها مصلحة أميركية عليا.
غير أن ما يمكن تسميته "العامل الإسرائيلي" لم يعد وحده كافياً لتفسير السلوك الأميركي وتناقضاته، خصوصاً أن بعض القضايا ليست ذات صلة مباشرة بالصراع العربي الإسرائيلي. وعلى الرغم من ذلك، السياسة الأميركية إزاءها غير مُتسقة، بل أحياناً تناقض نفسها. من ذلك مواقف واشنطن من التطورات الداخلية في بعض دول المنطقة، بدءاً بموجة الانتفاضات الشعبية والثورات التي ضربت المنطقة عام 2011. ثم الفراغ الرئاسي الممتد في لبنان، وأخيراً الأزمة السياسية المفتوحة التي يعيشها الداخل العراقي منذ ولاية نوري المالكي.
إقليمياً، لا يمكن وصف السياسة الأميركية تجاه النزاعات والأزمات القائمة إلا بالكذب المفضوح. يقول الموقف الأميركي المعلن إن واشنطن تساند تطلعات الشعب السوري ومطالبه، وإن لا مكان لبشار الأسد في سورية المستقبل، وإنها مع وحدة الدولة السورية، وتؤيد المعارضة السورية "المعتدلة"، وليس الجماعات الإسلامية الجهادية "الإرهابية". وباستثناء هذه الجزئية الأخيرة المتعلقة بالموقف من تنظيمات الجهاد المسلح، يتناقض السلوك الأميركي الفعلي مع الموقف المعلن. حيث تباشر واشنطن تنسيقاً عالي المستوى مع موسكو، في كل ما يتعلق بالوضع في سورية، وترحب بالتحرّكات الروسية، بما فيها العمليات العسكرية الروسية ضد فصائل المعارضة السورية "المعتدلة". وتقبل، بل تتمسك، بوجود بشار الأسد، من دون سقفٍ زمني محدد. وتدعم مباشرةً قوات سورية الديمقراطية (ذات الهيمنة الكردية) حتى تكاد تسيطر منفردة على مناطق حيوية ونقاط استراتيجية في شمال شرق سورية.
سجل السياسة الأميركية في المنطقة حافل بالأكاذيب، لكن ما يدفع إلى التساؤل، بل والاندهاش، أن واشنطن التي احتفظت بموقع القوة العظمى الوحيدة عالمياً عقدين تقريباً، ليست مضطرةً إلى الكذب على العالم. دول كثيرة أقل قوةً ونفوذاً، لكن أكثر صراحةً ومباشرة. روسيا وإيران تقفان علناً، وبكل قوة، خلف نظام بشار رمزاً لتأمين مصالحهما حالياً، ونفوذهما في سورية مستقبلاً. حتى عندما تغير بعض الدول مواقفها، ولو تكتيكياً، أو بحكم موازين القوى، فهي لا تخفي ذلك التحول، ولا تحاول خداع العالم كذباً. فتركيا صارت أكثر قرباً من موسكو، بما في ذلك بشأن سورية، إلى حد قبول بقاء بشار، بل والتعاطي معه. لم تحاول إخفاء ذلك التحول المهم، أو التجمُّل، بإظهار نقيضه، كما تفعل واشنطن.
بدأت الولايات المتحدة الأميركية الخروج من الشرق الأوسط، وإشاحة وجهها عنه، تدريجياً منذ عام 2010. وما من تبريرٍ واضحٍ لمحاولاتها المستمرة نفي ذلك التخلي، ربما هي الرغبة في الاحتفاظ بالصورة الذهنية التقليدية للدولة الكبرى الراعية للمنطقة، دولاً وقضايا. لكنها في سبيل ذلك تكذب وتكذب وتكذب، فتهدم تلك الصورة المُتخيلة أساساً، وتخسر مسبقاً أي ثقةٍ محتملةٍ عند عودتها إلى المنطقة بعد سنوات.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.