"همدان" ونهاية أوهام أوباما

"همدان" ونهاية أوهام أوباما

28 اغسطس 2016

مقاتلة روسية انطلقت من إيران ترمي حلب بقذائفها (16أغسطس/2016/Getty)

+ الخط -
كسبت روسيا، حتى الآن، بالنقاط، وبالضربة القاضية أيضاً، الصراع الدولي على إيران منذ إسقاط الشاه عام (1979). وبذلك، أنهت الأوهام التي عشعشت بين مخططي الإدارة الأميركية الحالية.
اختطّ المرشد الأعلى للثورة في إيران، علي خامنئي، توجهاً استراتيجياً جديداً، على صعيد علاقات بلاده مع القوى الكبرى، وإن لم يكن بالإمكان حسم خواتيمه منذ الآن. بفتحه أبواب إحدى أهم القواعد الإيرانية أمام الطائرات الروسية بعيدة المدى، يكون خامنئي قد خرج عن الخط الذي طالما دعت إليه "الثورة الإسلامية الإيرانية"، أي العمل على إنهاء الوجود الأجنبي في المنطقة، وتركها لأهلها. ومن جهة أخرى، نجح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في تنفيذ مناورة جيو-استراتيجية، كانت نهايتها إحداث أعمق هزة في الخريطة الاستراتيجية لعام ما بعد 1991.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، حققت الولايات المتحدة الهيمنة على معظم منطقة "الحافة" (Rimland) الاستراتيجية المحيطة بقلب العالم (Heartland) (روسيا)، والمتكونة من أوروبا الشرقية وتركيا وأفغانستان وباكستان. رضيت واشنطن بألا تكون إيران حليفة لها، طالما أنها لم تكن متحالفةً مع إحدى القوى الكبرى المنافسة للولايات المتحدة، وخصوصاً، روسيا والصين. يبدو أن ذلك شارف على النهاية.
شدّدت واشنطن العزلة على طهران ثلاثة عقود، واعتقدت أن فك عزلة إيران عبر الاتفاق النووي، وعودة الأخيرة إلى الأسرة الدولية دولةً مقبولةً من جديد، سيؤدي بطهران إلى التقارب مع الولايات المتحدة، من أجل تحقيق آمال الإيرانيين وطموحاتهم في التنمية والاستقرار والديمقراطية. ولكن، ما جرى أن روسيا كانت جاهزةً لاصطياد الغزال الإيراني. أخيراً، ألقت روسيا وإيران حجراً كبيراً في السياسة العالمية، عندما أعلنتا عن نشر طائرات روسية استراتيجية في قاعدة "نوجه" قرب مدينة همدان شمال إيران. جاء هذا القرار بعد مناوراتٍ وضغوط مارستها روسيا وإيران على بعضهما، إلى جانب ما نفذتاه من محاولات التغطية على تحركاتهما، مستخدمتين المحادثات مع واشنطن وأنقرة كإلهاء استراتيجي.
ربما ليس لدى الزعماء الإيرانيين الرغبة الكاملة في السير ضمن سياق الاستراتيجية التي يريدها بوتين. ولا شكّ في أنهم يتذكّرون النزاعات التاريخية لبلادهم مع جارتها الرهيبة: روسيا. مع ذلك، قرّروا الرهان دولياً، على الحصان الروسي، وذلك بعدما خسروا في سورية عام 2015، وبات الروس يتحكّمون في مفاصل اللعبة هناك. أما بوتين، فربما كانت إيران هدفه من سورية منذ البداية، لكنه لم يكشف عنه. فمع إطلاقه العملية الحربية ضد المعارضة السورية، حاول كسب ود واشنطن، وناور طويلاً بين السعودية وإيران. لكنه توصل الآن إلى الاصطفاف الكامل إلى جانب طهران وحلفائها، لاعتقاده أن حلفاً روسياً إيرانياً هو القادر على تحقيق الطموحات الروسية الدولية والإقليمية. على الرغم من حذره من الغدر الإيراني في بلاده، كما كان يحصل مع الاتحاد السوفياتي ووكلائه في المنطقة (جمال عبد الناصر، حافظ الأسد، صدام حسين).
لم يخفِ المسؤولون الإيرانيون أن نشر القاذفات الروسية الاستراتيجية في بلادهم خطوة
استراتيجية تأتي تتويجاً لـ "رؤية جديدة" للشرق، قائمة على تحالف روسي صيني إيراني، وتفاهم مع دول المنطقة. على الأرجح أنهم توصلوا إلى هذه الرؤية، بعد فشل سياستهم السابقة في تحقيق مطامحهم في المنطقة، والخسارة التي عانوا منها عام 2015. في المقابل، يعتقد بوتين أن الاتحاد السوفياتي هُزم في أفغانستان، لأنه لم يجد حليفاً دولياً أو إقليمياً يسانده. وهو أمر حرص الرئيس الروسي على عدم تكراره في سورية. لذلك، عقد العزم، منذ البداية، على توطيد تعاون دولي مع الصين وإيران، بشأن هذه الدولة التي تمزقها الحروب منذ خمس سنوات. هكذا وفرت طهران غطاءً روسياً صينياً، لإرسال مزيدٍ من قواتها ومرتزقتها إلى سورية، بينما عثرت موسكو على جنودٍ ومرتزقةٍ، مستعدين للموت في الميادين السورية، عوضاً عن استقبال النعوش في الساحات الروسية.
والآن، وبعد أن أنقذ خامنئي نفسه من الخسارة في المنطقة، بينما حصّن بوتين بلاده من الغرق في المستنقع السوري، بهذا القرار الجريء، بات الزعيمان قادرين على التفكير بالتداعيات الاستراتيجية لقرارهما.
ستجد إيران أن في وسعها التخلي عن الشراكة مع الولايات المتحدة في العراق، وأنها وفرت لنفسها الغطاء المناسب، من أجل إرسال مزيدٍ من القوات، والمرتزقة إلى سورية، من أجل حسم معركة حلب، في أعقاب الهدنة التي يجري بلورتها الآن. كما بات لدى الإيرانيين، اليوم، مدافع قوي عنهم في المحافل الدولية. بعد همدان، اقتربت روسيا أكثر من المواقف الإيرانية في المنطقة، وأبدت استعداداً لمناكفة السعوديين. تجلى ذلك في التغيير الحاد الذي طرأ على السياسة الروسية تجاه المسألة اليمنية في مجلس الأمن الدولي.
تاريخياً، هذه من المرات القليلة التي تحصل فيها القوات الروسية على حق الوجود في الأراضي الإيرانية. كانت الظروف في تلك الحالات استثنائية. على مدار قرنين، نمت مطامع الزعماء الروس بالسواحل الإيرانية على المياه الدافئة. وتمكن الكرملين من تعزيز المرابط الروسية غربي سورية، بعد صفقة "الكيماوي" عام 2013. وبحلول نهاية العام 2015، أصبح لروسيا قوات بحرية وجوية وبرية متكاملة، على أجزاء واسعة من الرقعة السورية، (حميميم - تدمر - الكاستيلو - الشعيرات - كويرس - القامشلي - دمشق - طرطوس). والآن، اقترب بوتين، بعد نشر الطائرات الروسية في القاعدة الإيرانية، من وضع قدم الدب الروسي الثانية في المياه الدافئة للخليج العربي. هكذا انتقل مجال القوة الروسية إلى آفاق جديدة، كان قد تم طرده منها عامي 1946 و1989. وللطرف الدولي الفائز بإيران جائزة ترضية: العراق. تحمل قاعدة همدان فرصاً أخرى لبوتين؛ فهي ستمكّنه من استعادة نفوذ بلاده الضائع في العراق. لا ينسى الزعيم الروسي أن واشنطن دمرت النفوذ السوفياتي في بلاد الرافدين، في أثناء حرب الخليج الثانية.
من جهة أخرى، هز بوتين الخريطة الجيو-استراتيجية العالمية. ولأن إيران هي إحدى الدول المتوضعة في منطقة "الحافة"، فإنها تمثل أهمية حاسمة لروسيا المتربعة في القلب الجيوسياسي للعالم. وينظر بوتين إلى إيران مع سورية والقرم على أنها مكاسب على طريق استعادة أوكرانيا. وهو لا شك سيعمل على تعزيز مواقعه في هذه المناطق، من أجل جولة ثانية في الصراع الأوكراني.
بنشر الطائرات الروسية في القاعدة الإيرانية، حسّن بوتين الوضع الجيوسياسي لروسيا، وكسب نقطة في الصراع الدائر مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) في شرق أوروبا والشرق الأوسط. باتت لديه قاعدة في إيران، قد تتطور لتوازي قاعدة أنجرليك في تركيا، والتي تستخدمها واشنطن والحلف. ولأن القاذفات الروسية المنشورة في القاعدة في وسعها حمل رؤوس نووية، فإن بوتين أصبح يملك، نظرياً على الأقل، خيار التلويح بتسليح همدان نووياً، من أجل نزع أنياب "الناتو" النووية في تركيا.
وبينما يراقب العالم انهيار المشرق العربي، فإن مستقبل أفغانستان وأوكرانيا على بساط البحث الدولي. لذلك، عزم بوتين وخامنئي على تعزيز مواقعهما والتعاون فيما بينهما، من أجل تعظيم حصتهما في التقاسم المقبل لتلك المناطق. وتتوضع همدان في الوسط الإيراني ما بين أفغانستان والعراق (وتالياً سورية). وهي توفر منطلقاً للروس للمساهمة في تقرير مستقبل هذه البلاد، والذي يجري الآن، بالحديد والنار.
هكذا، تغدو دول المنطقة وباكستان وأفغانستان وأوروبا والولايات المتحدة والصين والهند معنية
بالخطوة الروسية الإيرانية المشتركة، وخصوصاً الولايات المتحدة، تركيا والسعودية. وبالنسبة للأخيرة، لا يمكن أن تكون المخاطر أكبر. فكابوس هيمنة إيران على الهلال الخصيب يقترب من التحقق، فضلاً عن العبث الإيراني في الخاصرة السعودية: اليمن. ستزداد المخاطر إذا ما استكملت إيران هيمنتها على العراق، ومكّنت روسيا من إزاحة النفوذ الأميركي في هذا البلد. وعلى الرغم كل شيء، تظل واشنطن ذات توجه إيجابي حيال السعودية، بخلاف بوتين الذي كلما قويت شوكته زاد من ضغوطه على الرياض التي لن ينسى أبداً دعمها الجهاديين الذين تسببوا بأكبر "كارثة جيوسياسية في التاريخ" (سقوط الاتحاد السوفياتي). هكذا، ستجد السعودية نفسها، وقد أقصيت عن الهلال الخصيب، وعزلت في مواقعها في الجزيرة العربية، وتم ضبط حركتها في الوضع اليمني الذي تملك إيران وروسيا مفاتيح زعزعته وتحريكه ضد الرياض.
وحمل نزول القوة الروسية إلى إيران ذكريات شديدة القتامة للزعماء السعوديين، فقبل نحو أربعة عقود اجتاح الاتحاد السوفياتي أفغانسان، وذلك بينما سقط شاه إيران، وأتى الخميني إلى السلطة، معلناً تصدير الثورة إلى العالم الإسلامي، وخصوصاً إلى دول الخليج. نجت الرياض من هذين الخطرين، لأنهما ظلا منفصلين، ولم يلتقيا، ما مكّنها من اجتراح تحالفات دولية وإقليمية لدرئهما. لم يفكر قادة السوفييت والإيرانيين في توحيد جهودهما إلا بعد فوات الأوان؛ بعد هزيمة الاتحاد السوفياتي في أفغانتسان، وخروج إيران منكسرة من الحرب العراقية الإيرانية.
واليوم، على السعودية أن تواجه التطويق الروسي الإيراني المشترك لها، بدءاً من إيران ووصولاً إلى لبنان وإلى اليمن. وعليها أن تكافح المدحلة الروسية الإيرانية في سورية، والتنسيق المتعاظم بين موسكو وطهران بشأن العراق واليمن، والذي قد يتسع ليشمل شؤون أفغانستان والنفط والغاز. فروسيا وإيران لاعبان كبيران في سوق الطاقة العالمي، وإذا ما نجحتا في جذب العراق إلى صف سياستهما في هذا السوق، تكونان قد عزلتا السعودية وهددتا بإنزالها عن عرش الدولة المتحكّمة بأسعار الخام العالمي وتدفقاته.
أما تركيا فإنها، ولأول مرة في التاريخ الحديث، تتواجه مع واقع تحالف روسي إيراني،
والأخطر أن هذا التحالف تعديلي (عدواني) يعمل على تغيير الموازين الدولية والإقليمية لصالحه. وعلى الرغم من التوترات التركية الغربية المزمنة، خرجت تركيا من الحرب الباردة، مع الطرف المنتصر، ووفر لها ذلك موقعاً جيداً للانخراط في شؤون أفغانستان وآسيا الوسطى، القوقاز، البلقان والشرق الأوسط. ولن تكون روسيا رحيمةً مع تركيا، إذا ما حققت غاياتها من التحالف مع إيران، سواء في الشرق الأوسط وشرق أوروبا وآسيا الوسطى، بل على الأرجح أن يرتدّ ورثة القياصرة والزعماء السوفييت إلى مطالب أولئك القديمة في اسطنبول ومضائق البوسفور والدردنيل.
سيعمل الحلف الروسي الإيراني على عزل تركيا عن تقرير مصير أفغانستان والعراق وسورية، أو أنه سيترك لأنقرة حصةً صغيرة للغاية، لا تتناسب والاستثمارات التركية الكبيرة في تلك المناطق. وبتفعيل الحلف بين جارتيها، ستجد أنقرة نفسها معزولة عن الخليج العربي وشؤون القوقاز وآسيا الوسطى. وظهر مؤشر على ذلك من قمة باكو التي جمعت روسيا وإيران مع حليفة تركيا: أذربيجان.
لا تبدي واشنطن أي مؤشر على فهمها خطورة الموقف الراهن. فقد سبق لمستشار الأمن القومي الأميركي السابق، زبيغينو بريجنسكي، أن حذر في كتابه "رقعة الشطرنج العظمى"، عام 1997، من اتفاق روسي صيني إيراني، يعمل على تهديد مكانة واشنطن السامية في آوراسيا. وبعد نشر روسيا طائراتها الاستراتيجية في القاعدة الإيرانية، وبروز الحديث عن مناوراتٍ بحرية مشتركة بين الصين ووسيا وإيران فضلاً عن الانخراط الصيني في الأزمة السورية إلى جانب النظام، فإن الكابوس الذي أقلق بريجنسكي في أواخر القرن الماضي، أخذ بالتحول إلى واقع بالنسبة للولايات المتحدة ومجمل الغرب. لدى هذه الكتلة الصينية الروسية الإيرانية البرية المتراصة إمكانات عزل القوى البحرية، مثل الولايات المتحدة عن شؤون آوراسيا. ستفوق مخاطر الحلف الروسي الصيني الإيراني (واستتباعاً العراقي السوري اللبناني) على الغرب، تلك التي رتبها الحلف السوفياتي الصيني، أوائل الحرب الباردة، لأنه سيتمد، بشكل متصل، إلى بحار قزوين والأسود والبلطيق والمتوسط (عبر سورية) والأحمر (عبر اليمن)، العرب، والخليج العربي. سيشرف هذا الحلف على المضائق والممرات الدولية في كل من البوسفور، والدردنيل، وهرمز، وعدن، وأخيراً، قناة السويس، أو يتحكّم بها أو يهددها. وفي جعبة المسؤولين الروس والإيرانيين خطط لشق طريق بحرية عبر إيران تصل الخليج العربي ببحر قزوين، ما يشكل تهديداً لمكانة قناة السويس في الملاحة العالمية.
بتحالفهما، قد تتمكّن روسيا وإيران من تهديد المواقع الأميركية في العراق وأفغانستان، والتي بنتها واشنطن خلال العقد الماضي. كما ستمكّن القاعدة في همدان بوتين، من رسم استراتيجية روسية متكاملة، تعتمد المناورة ما بين الأزمات الدولية في أوكرانيا وأفغانستان والعراق وسورية، وناغوني كاراباغ ما بين أذربيجان وأرمينيا. وستثير استراتيجية كهذه أعصاب الغرب، وتفقده اتزانه، وتجعله مشتتاً في التعامل مع مواطن التوتر.
في المقابل، سيرتب الخيار الروسي أثماناً على إيران أن تدفعها، إذ ربما يلجأ الغرب إلى التعامل بشكل مختلف مع إيران المتحالفة مع روسيا. وبالمثل، ستدفع روسيا أثماناً إقليمية وداخلية عن اصطفافها إلى جانب المحور الشيعي في المنطقة، فضلاً عن التحركات الدولية التي سيثيرها هذا الاصطفاف.
المنطلق الأساس لأي استراتيجية مضادة لهذا التحالف الناشئ هو سياسة أميركية جديدة تجاه
المنطقة، وتعزيز الخطوط مع تركيا والخليج والمعارضة السورية. وربما حان الوقت لتحسم واشنطن خيارها بين الأكراد والأتراك، وما بين الأكراد والدول العربية، وما بين إيران والسعودية. لقد هدّد الرئيس الأميركي، باراك أوباما، نفسه، خلال سنوات حكمه، بأوهامٍ عديدة. لقد بنى سياسته على ضرورة تخفيف الضغوط الأميركية عن روسيا وإيران، بما يؤدي إلى تقليل حوافزهما للتقارب، وعمل بكل جهده من أجل التوصل إلى صفقة أميركية إيرانية، ولو كانت على حساب العرب والأتراك. وفي هذا الصدد، اعتقد أوباما أن بإمكانه تعديل سلوك إيران عبر إغرائها ببعض "الجزرات" على صعيد الاقتصاد والإقليم، وخصوصاً في العراق وسورية. وأيضاً اعتقد أن الأكراد في سورية والعراق عامل حاسم في اللعبة الإقليمية، معادياً في سبيل بناء تحالف معهم ضد داعش والأتراك والعرب. وآخر وهم تعلق به سيد البيت الأبيض، وهو مرتبط بأوهامه الخاصة بإيران، أن بالإمكان العمل مع الحشد الشعبي في العراق، للقضاء على تنظيم داعش. وجاء الاتفاق الروسي الإيراني الذي تستعد الصين للانخراط فيه، ليحطم تلك الأوهام.
ولكي ترسل الإدارة الأميركية الإشارات الضرورية عن نهاية عصر الأوهام، عليها تغيير مجمل استراتيجية التحالف الدولي الجاري العمل بها حالياً، والتي عزلت الأميركيين عن حلفائهم التاريخيين، العرب والأتراك، من أجل التقارب مع الإيرانيين والأكراد. كما على واشنطن العدول عن البحث عن سبل الاستفادة من الوجود الروسي في سورية، لأنه قاد إلى تحالف روسي إيراني في الشرق الأوسط، يهدّد مجمل الترتيبات الأميركية لعالم ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وربما اضطرّت الإدارة الأميركية، في سبيل ذلك، إلى إقصاء بعض المستشاريين والمسؤولين الذين اجترحوا تلك السياسات. أخيراً، على واشنطن وضع العراقيل أمام التحليق الروسي من إيران عبر العراق إلى سورية، كما عليها إطلاق يد تركيا شمال سورية، والسعودية جنوبها من أجل تهديد مواقع الإيرانيين والروس.
ليس على واشنطن أن تتمسك بكل ترتيبات ما بعد الانهيار السوفياتي، وأن تقاتل من أجل بقائها. ومع ذلك، ستواجه هذه الدولة موقفاً أصعب وتهديدات أشد لأمنها الوطني، إذا ما انهارت تلك الترتيبات التي تم تصميمها من أجل حماية الأمن القومي الأميركي بالذات، والمصالح الأميركية في العالم أجمع. في الحقيقة، إن عالم ما بعد 1991 لا يعبر عن الوقائع الدولية، ولا بد له أن يتغير ويندثر. ولكن، لا يجب أن يتم ذلك بالقوة الغاشمة والتحالفات الطائفية والنزاعات الانتقامية، والتي تهدّد بإثارة حروب لمئة عام، وربما أيضاً تهدد بخراب العالم.