استفتاء بريطانيا: ضارّة نافعة

استفتاء بريطانيا: ضارّة نافعة

24 يونيو 2016
+ الخط -
ليست قضية الخروج من الاتحاد الأوروبي حكراً على بريطانيا وحدها، وما من دولةٍ أوروبية من بين قديمة العضوية في الاتحاد إلا وتعرف هذه الظاهرة التي بدأت تنتشر وتستشري، بعد بدء العمل بتداول العملة الأوروبية الموحدة مطلع عام 2000. ومنذ ذلك التاريخ، صار جزء كبير من التّذمرات الاجتماعية يُرمى على ظهر العملة الجديدة (اليورو) التي اعتبرها قطاعٌ واسعٌ من الرأي العام غيّرت قواعد القدرة الشرائية في أكثر من بلد أوروبي، الأمر الذي ترتب عليه ضرر كبير لحق بحياة المواطن العادي الذي وقع ضحية عملية تلاعبٍ واسعةٍ بالأسعار. وبدا واضحاً أن أوروبا منقسمة على هذه المسألة، خلال الاستفتاء على اتفاقية ماستريخت التي سقطت في الدنمارك، ونجحت في بقية البلدان بفارق بسيط جداً (أقل من واحد في المائة). وتنوعت الحساسيات السياسية التي وقفت ضد الاتفاقية بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، لكنها انطلقت جميعاً من معارضة القوانين الاقتصادية التي جاءت بها، وخصوصا ما عرف بـ"ميثاق الاستقرار" الذي فرض على دول الاتحاد معياراً صارماً، يتعلق بعجز الموازنة، لا يتجاوز 3 في المائة من الناتج الخام المحلي.
حصلت بريطانيا على امتيازٍ خاص في اتفاقية ماستريخت في ما يخص العملة الموحدة، وكانت قبل إقرار الاتفاقية عام 1991 في بلدة ماستريخت الهولندية، بين الرئيس الفرنسي حينذاك فرانسوا ميتران ومستشار ألمانيا هيلموت كول، قد بقيت خارج اتفاقية سوق الصرف الأوروبية الموحدة. وبذلك، ظل وضع الجنيه الإسترليني يخضع لآلياتٍ مختلفةٍ عن بقية العملات الأوروبية. والخلفية البعيدة لهذا الأمر هي مسألة الاتحاد الفيدرالي التي رفضتها بريطانيا، لأنها تتعارض، في نظرها، مع مسألة السيادة.
لم تكن العملة وحدها التي ميّزت بريطانيا عن بقية دول الاتحاد الأوروبي، بل رفضت لندن أيضاً دخول اتفاقية شينغن الخاصة بإلغاء الحدود الأوروبية، والعمل بتأشيرة دخول واحدة لكل بلدان أوروبا. وفي مجال السياسة الخارجية، عارضت بريطانيا، في غالبية الأحيان، الاتفاق على سياسة خارجية أوروبية موحدة. وفي الأزمات الدولية الكبرى، اختارت السير مع الولايات المتحدة، مثلما حصل في حرب الخليج الثانية، حين قرر رئيس الوزراء الأسبق، توني بلير، الاصطفاف إلى جانب الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش، بوجه الرئيس الفرنسي الأسبق، جاك شيراك. وفي مواقف أخرى، انحازت إلى الحلف الأطلسي في وجه مشروع القوة الأوروبية الموحدة.
الاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الاوروبي أضر الاتحاد، وأفاده بالقدر نفسه، وهذا ما عبّرت عنه الفوارق الطفيفة بين مؤيدي البقاء في الاتحاد وأنصار الانسحاب منه. وجاء الضرر من أن الاستفتاء وضع الاتحاد محلّ مساءلةٍ، بعد أكثر من نصف قرن على قيامه، بينما أفاد، من ناحية، أنه كشف عن أن الذين تبنوا الخروج لم يقدّموا مشروعاً متكاملاً يدافع عن موقعهم، بل وقفت ضدهم كل الأطراف المؤثرة في المعادلة، المال، والإعلام والسياسة. وعشية الاستفتاء، بدا الذين حملوا رايته غير قادرين على بلورة منطقٍ مقنع، وظهروا تياراً يجمع في صفوفه جماعاتٍ لا يربطها رابط يمكن البناء عليه مستقبلاً من أجل مشروعٍ بعيد المدى.
ومثلما يدرك أنصار الخروج من الاتحاد أن آفاق المستقبل البريطاني خارج الاتحاد مسدودة، يحسّ أي أوروبي آخر بالشعور نفسه، فلا يمكن لأوروبيٍّ أن يعيش اليوم وحده، انطلاقاً من أسبابٍ اقتصادية قبل كل شيء. وهذا يؤكد على بعد نظر المؤسسين الأوائل للاتحاد في عام 1958، كمجموعة تجارية تطوّرت إلى السوق الأوروبية المشتركة، ومن ثم الاتحاد بشكله الحالي الذي دعا له المؤسسون الكبار، مثل الجنرال ديغول، ليصبح دولة فيدرالية من الأطلسي إلى الأورال.
1260BCD6-2D38-492A-AE27-67D63C5FC081
بشير البكر
شاعر وكاتب سوري من أسرة العربي الجديد