مغامرة أحمد دحبور

مغامرة أحمد دحبور

22 يونيو 2016

دحبور: القصيدة الأقل صراخاً لا تعني أنها الأقل ألماً

+ الخط -
عندما تناهى إلى الأسماع أن صحة الشاعر الفلسطيني، أحمد دحبور، تدهورت أخيراً إلى درجة استدعت نقله على نحو عاجل إلى المستشفى، كان أول ما تبادر إلى ذهني أن من حقّه علينا أن نهيئ للقارئ الدخول إلى عالمه الشعري الذي بناه لنفسه ولنا. وثمة مفاتيح عديدة يمكنها تيسير الولوج إلى هذا العالم. ولعدم التمكّن من الوقوف عند المفاتيح كافتها، بما يلزم من توسع، سأكتفي بواحدٍ منها يمكن توصيفه بأنه "مفتاح المغامرة الشكلانية".
في أكثر من مناسبة، برّر دحبور إغراء هذه المغامرة بأول "درسٍ" تلقاه على يد "أستاذه" الشاعر موريس قبق، وفحواه: أن تكون شاعراً يعني أن تكون شخصاً مختلفاً، لا بمعنى السلوك المباشر أو الثياب أو الهيئة... بل هنا، في الداخل، أن تتأمل وتقرأ، أن تكون لديك قدرة على تمزيق ما تكتب، أن تحذف وتضيف... أن تعي مسألة الوحدة الموضوعية والوحدة العضوية في القصيدة... ألّا تكتب ما هو سهل ومألوف، أن تبتعد عن الكليشيهات والتعابير الجاهزة.
والحق أن المغامرة الشكلانية التي خاض الشاعر غمارها بدت في حينه، مثلما تبدو الآن، مختلفة. ليس هذا فحسب، بل أيضاً سارت في اتجاه التنويع على هاجس إيقاعي. وانفجر هذا الهاجس في مجموعته الشعرية السادسة "واحد وعشرون بحراً" (1980)، واستمر بعدها في المجموعات التي تلتها. وقد ضمّت المجموعة إحدى وعشرين قصيدةً، تلتزم كل منها إيقاعاً مختلفاً.
هل هي مسألة تزيينية شكلانية محض؟ سأل دحبور الشاعر فيه، فأجاب: لا أظنّ، وإنْ كان التزيين تهمةً لا تؤرقني، إلا أن ما أرّقني طويلاً هو وصول القصيدة العربية المعاصرة إلى ما يمكن أن نسميها التقليدية الجديدة... فنحن غالباً ما نقرأ الكتب نفسها، ونجري الحوارات نفسها، ونعاني الهموم (الوطنية والاجتماعية خصوصاً) نفسها، وإذا ما حملنا هذا كله إلى أوعية القصيدة الحديثة ذات التفعيلة، وجدنا أننا نسبح في بضعة بحور شعرية محدّدة، الأمر الذي يساعد، ضمن عوامل أخرى، على كتابة قصيدة موحّدة، بحيث كاد التمايز بين شاعر وآخر يقتصر على الدرجة في الطاقة الشعرية، لا على النوع الشعري.
ويضيف أنه، بهذا الأرق، استقصى أشكال الإيقاع في الشعر العربي، ولم يكتف بالبحور الستة عشر المعروفة، ولم يستبعد الاقتراح النثري. ومع ذلك، ظل يؤكد أن المسألة ليست مسألة عروض ونثر. لكن، من حقِّ أي شاعرٍ أن يبحث عن الحياة بأدواته الخاصة، وأن يبحث عن أدواته في الحياة.
واستمرت هذه المغامرة الإيقاعية في مجموعته الشعرية الثامنة "هكذا". وفيها استخدم بحور الشعر كلها، الصافية والمركّبة، وجرّب النثر كذلك، بل وولّد مسارات خاصة به، كما في قصيدة "نفايات الوقت الضائع". وفضلًا عن المضي في هذه المغامرة الشكلانية لدى كتابة الشعر، كانت لدحبور إسهامات في إشهار الخصوصيات الفنية، وحركة التحويل والتغيير في الشعر الفلسطيني، وفي القبض على الجانب اللافت من حركة هذا الشعر، فيما هو متسلّحٌ بوعيٍ ملتصقٍ بهاجس القصيدة الصافية والمعبرة.
وهذا يمكن أن نستنتجه، ليس على سبيل الحصر، من مقالته "مقدمة في الشعر الفلسطيني"، نشرت عام 1995 في مجلة الكرمل الفصلية الثقافية. وفيها نقرأ: المدرسة الاحتفالية الداعية إلى تثوير "موضوعات" الشعر، وإلى التساهل الفنيّ في سبيل الوصول إلى الجماهير، لم تصمد للتطوّرات العنيفة التي شهدتها الحياة العربية بعامة، والفلسطينية بخاصة، إذ أسرعت التراجيديا الفلسطينية في تفجير الأسئلة أمام الشعراء، وتحريض حاسّة التأمل لديهم، فجعل الشعراءَ يبحثون عن أشكالٍ جديدةٍ تعبّر عن نوازعهم التي غدت أقل صراخاً بشكل عام، وإنْ لم تكن أقل ألماً وجراحاً. وفي هذه المسيرة، عثر الشعراء على بداياتٍ جديدة لقصيدة النثر، وذهب بعضهم إلى المغامرة والاستقصاء في أوزان الشعر العربي المختلفة، مما لم تكن قد تعاملت معها قصيدة التفعيلة.
كأنّ الشاعر يتكلم عن نفسه بقوله إن القصيدة الأقل صراخاً لا تعني أنها أقل ألماً وجراحاً.