محمد عسّاف مجزّأً

محمد عسّاف مجزّأً

10 مارس 2016

محمد عسّاف.. صنعناه من طين هزائمنا

+ الخط -
حاولوا ألا تطلبوا من محمد عسّاف أن يكون غير نفسه، لا تجزئوه، خذوه كله، اقبلوه له (كبكج). هل يمكن الاحتفال بصوته وأدائه الرائعيْن، ثم إدانة ورفض تفكيره وعقله؟ هل يعيش التخلف الفكري مع الصوت الساحر؟ من السهل التنظير حول هذه الأزمة، من السهل اقتراف الهجوم على الفنان الغزي الشاب. لكن، صعب جداً عدم الوقوع في تناقض. نريد صون عسّاف وموهبته، ونريد، في اللحظة نفسه، عقله المستنير وفكره الحضاري المشع. للأسف، صعب هذا الجمع، فقد فاجأنا عسّاف بأنه ضد غناء أخته، بأنه يخجل من غنائها، بأنه محافظ ومتمسك بالتقاليد، هذا يعني أنه ضد غناء البنات، يا لرعب الصورة، تخيلوا غابةً من أصوات الرجال في العالم، تضج بهم جنبات المسارح.
بودّي لو أسال عسّاف: هل تعترف على الأقل بحق البنت في الصراخ، وهي تسمع صوتاً جميلاً؟ من هو عساف؟ أليس هو الشخص الذي خرج منا، وما زال يخرج منا، كل لحظة. لا تنتظروا منه، يا ناس، أن يكون شخصاً تتمنونه، وتحلمون بمجيئه. أخاطب طبعاً نفسي، بصفتي أحد المتفاجئين المصعوقين، من تصريحاته الأخيرة بخصوص غناء أخته، كيف يحدث، وأن يكون الفنان متخلفاً؟ الفن حضارة، أغنية هائلة عن حريةٍ أبدية، بناء جديد لعمارة الوجدان، إحساس متفاجئ بجمال الحياة ومتعة العيش. الفن وصول لا نهائي إلى منحدرات الشغف، ثم الحلم بالقمة، من دون الوصول إليها. الفن قلب خارج من البيت بلا هوية يسيل، جارفاً الحدود والجنود، ويغيب حتى عن ذاته، هو روح تطارد ظلها، بحثاً عن شكل أو إيقاع آخر، لعلاقة مستحيلة. الفن دعوة إلى حفلة الجنون، والتمادي في اختراق المغلق، ها أنذا أخاطب عشاق التحرّر والانفتاح من الفلسطينيين المتنورين الذين يرون في الفن طريقاً لاستعادة إنسانيتنا المستعبدة التي نهشها الاحتلال، وكسر وجهها التخلف، ووسيلةً رائعةً للدفاع عن حقنا في اكتشاف أقصى حالات النفس وممكنات العالم وأبعاد الحياة.
الذين استغربوا رفض عساف غناء أخته، ودخولها الحياة الفنية، أقول لهم، هذا هو بطلنا الذي صنعناه، جبلناه من طين هزائمنا، ومن خبز فقرنا، ومن ماء روحنا المنهكة. كان يجب أن يكون عسّاف، فقد خلت بلادنا من أبطال، والهزيمة شرّشت في كل بيت ومدرسة ومؤسسة وشارع ومقهى وكتاب. هذا هو تماما، ابننا، طفلنا الذي نما على صيحات حليبنا الذي رقصنا له، وبكينا من أجله، وصرفنا فلوسنا لفوزه. ها هو يقولها، من دون أن ترمش له عين: أنا ضد غناء أختي.
مليء بالغضب هذا النص، مليء بالندم بالحيرة، والرغبة في اللطم وشتم كل شيء، مليء بالتناقض أيضاَ. هل يعرف عسّاف أن معظم المصوتين العرب من البنات في العالم؟ وحتى لو عرف، هل سيعتذر ويسحب كلامه، التخلف لا يسحب كلامه، التخلف عقائدي متمسك بذاته وجيوشه وأسلحته. التخلف هو نحن، تماماً نحن.
أنظر بعين مبهورة مستيقظة إلى آخر اختراعات العالم: خزانة داخل حقيبة، الهاتف السوار، اليخت المستقبلي، الكتاب الإلكتروني القابل للطي، بطاقة الحب لمحبي التسوق. وأرى بعين خجولة مريضة عسّاف، وهو يتحدث بصراحة عن تمسكه بالتقاليد، وتشرفه بالتسمك بها، وأهم تقليد في منظومة عسّاف هو منع البنات من الغناء، لماذا يا محبوب العرب؟ لأن البنت مصدر للإغواء والرذيلة، ودافع للانحراف، (أحاول هنا أن أجري معه حواراً متخيلاً) طيب، ماذا عن أم كلثوم وأسمهان وفايزة أحمد وفيروز؟ هنا، أسمع صمتاً رهيباً. قادماً مني ومنه.
لماذا أتـذكّر الآن سؤال الإعلامية المصرية التي سألت الفنان الشهير، ليوناردو دي كابريو، سؤالاً غير مألوف في الغرب، سؤال ينتمي فقط إلى أسئلة العرب الغبية، عن إحساسه بعد فوزه، بجائزة الأوسكار، هل من رابطٍ بين نظريات عسّاف حول غناء البنات وسؤال الإعلامية المصرية؟
أترك اكتشافه لذكائك، أيها القارئ العزيز.
4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.