طرائف ثورية سورية

طرائف ثورية سورية

28 فبراير 2016

مظاهرة في مدينة بنش شمال إدلب (17فبراير/2012/Getty)

+ الخط -

مَنْ لم يشارك الشبابَ السوريين ثورتَهم، ولا سيما في الأسابيع الأولى من انطلاقها، يستحيل أن يستوعب مقدار المتعة التي تتحقق للثائر الذي يمشي في الشارع، جهاراً، نهاراً، وهو يهتف للحرية، ويطالب وريثَ حافظ الأسد بالرحيل، بينما النظامُ، المدجّجُ بالوحشية، والجبروت، والمخزون الهائل من الإجرام، يقف حائراً، لا يفكر بشيء سوى اعتقال هؤلاء الفتية، وتعذيبهم، أو قتلهم.

يعرف السوريون أن المخابرات تستخدم ثلاثة أنواع من المراقبة الهاتفية. الأول، مراقبة هواتف الأشخاص الذين اشتغلوا، في فترة ما من تاريخهم، بالسياسة، ومن المحتمل أن يعودوا إليها مثلما (تعود حليمة إلى عادتها القديمة). والثاني يتألف من أشخاص أذكياء ذوي شخصيات قوية، يمكنُ أن يلعب الشيطان بعقولهم، فيزيّن لهم معاداة القائد التاريخي حافظ الأسد، ووريثه من بعده، وبالتالي، لا بد من مراقبتهم احتياطاً. وأما النوع الثالث فيتلخصُ في وضع حزمةٍ عشوائيةٍ من ألف خط، على جهاز المراقبة الإلكتروني، ثم تغيير الحزمة بعد مضي شهر، وهكذا.

ومع أنه لا يجوز للمراقِب أن يفشي أسرارَ الناس الذين يتطفل على أسرارهم، إلا أن عناصر المخابرات السوريين اعتادوا أن يهمسوا للدوائر العائلية، القريبة منهم، بما يسمعونه، في أثناء التجسس، من مكالمات، بين شبان وصبايا متحابين، يتغازلون، عبر الهاتف، على نحو شرعيٍّ إن كانوا في طور الخطوبة، أو تهريباً إن كانوا من صنف العشاق. وأما مكالمات الناس المتزوجين فتكاد تنحصر في امرأةٍ تتصل بزوجها، وتطلب منه ألا ينسى شراء بندورة، وكوسا، وأرز للكبسة، ومعجوناً لجلي الطناجر، وأن يصلح كندرة الولد، وأن يُحضر شراب السعلة من الصيدلية، ونادراً ما يتفوه الزوج، أو الزوجة، بكلمةٍ حلوة، بل لا تخلو مكالماتهم من عنصر الشجار.

ضمن هذا الجو المشحون بالرعب، كان شبابُ الثورة يتهاتفون للاتفاق على الموعد، فيسألون: أين العشاء الليلة؟ فيكون الجواب: العشاء برغل. يعني الاتفاق أن تخرج المظاهرة من جامع الشيخ برغل، أو: أنا داعيكم ظهراً للغداء، وإذا لم يحالفنا السعد (يقصد جامع سعد بن أبي وقاص) فلا بأس أن نذهب سويةً لزيارة أبي علي.. (والمقصود جامع الحسين بن علي في الحارة الشمالية).

وكانت غرفة صديقنا عبدان ذي البشرة الحمراء الذي نلقبه بـ (الفجل) قد تحوّلت، على الرغم من ضآلة مساحتها، إلى مقهى ثوري بالغ الخصوصية، نأوي إليه بعد المظاهرات الليلية، فنتناول الطعام ونشرب الشاي، وندخن السجائر، ونستعرض ما تعرضنا له من مواقف خطيرة، أو طريفة، طوال النهار. وكان أكثرها طرافةً التمثيلية الهزلية التي يرتجلها فاتح الطويل الهَبيل، حينما يقلد كلام الأخ بثينة شعبان عن حزمة الإصلاحات التي سيجريها السيد الرئيس، ثم يقلد خطابات بشار الأسد التي يشرح فيها خطته الإصلاحية، مستخدماً أصابعه الطويلة في حركةٍ لولبية لا تهدأ.. ثم يعرض علينا، من جهاز هاتفه، فيديو لرجلٍ من مدينة سراقب، وقعت قذيفة فوق منزله حوّلته إلى ركام، فوقف أمام كاميرا الجزيرة، وأخذ يشير إلى الركام، ويقول: هذه إصلاحاتك يا بشار؟

وكان زميلنا كمال قد عالج مشكلة البرد في الغرفة الثورية، فبنى مدخنة من القرميد، وحينما أشعلها أعطت وهجاً أكبر من طاقتنا على التحمل، فأطفأها. وبعد أن بردت هدمها، وأخرج ركامها إلى أرض الديار، فلحقنا به، وصرنا ننظر إلى الركام ونقول: هذه إصلاحاتك يا كمال؟..

وذات ليلة، دخل أحدُ الأصدقاء، وأعلمنا بأن رجال الأمن أطلقوا النار على مظاهرة ليليةٍ، ووقع عددٌ من الجرحى، وعلينا أن نطمئن عليهم من خلال الدكتور سامي، المناوب في المشفى الوطني.. فما كان من "الفجل" إلا أن اتصل بالدكتور سامي وقال له، بطريقة الألغاز، كالعادة:

دكتور، اليوم كان في عرس في الحارة، وصار فيه إطلاق نار، بالله هل يوجد مطربون جرحى عندكم في قسم الإسعاف؟

        

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...