ابتسم أيها الرجل الكبير

ابتسم أيها الرجل الكبير

18 فبراير 2016

مات رايش مسموماً في سجن أميركي

+ الخط -
لديّ نقطة ضعف قوية إزاء كل مفكر أو كاتب سخر منه الناس، أو الدولة، وأحرقت كتبه، أو منعت من النشر، أو صودرت، أو أطلقت عليه كلاب الشائعات، ومزقت سمعته شر تمزيق. لدي نقطة ضعف شاسعة إزاء كاتب أو مفكر أو فنان مات وحيداً في غرفة باردة، من دون أن ينتبه له أحد، ومشى في جنازته نتف من البشر، وكثير من شجر الطرقات والصمت والأسى. لديّ نقطة ضعف صلبة إزاء كل مبدع قدّر واكتشف وفهم بعد وفاته. هذه الأيام أدخن حياة وكتابات وليهلم رايش (تلفظ رايخ). لفافات فكر ساخنة، وأمشيه طرقات وعرة وطويلة، وأعزفه لروحي في الليل الهاذي، ألحاناً للعزلة الخانقة المحببة. أعيش، هذه الأيام، مع فكر (وحياة) هذا المفكر وطبيب التحليل النفسي النمساوي، الذي كان صديقاً حميماً لفرويد، وعضواً نشيطاً في الحزب الماركسي، لكنه تمرد عليهما، مختاراً طريقاً غريباً عن الذوق العام، وعن نمط التفكير في حقبة فكرية أوروبية، لم تكن مهيأة تماماً لأفكار تغريبية (هدامة)، رآها بعضهم أقرب إلى أحلام رجل يعاني من الذهان، منها للعلم، حتى أينشتاين الذي عرض رايش عليه أبحاثه خاف من التعقيب عليها، معتبراً أنها خطيرة جداً، وتحتاج وقتاً للاعتراف بها، كما علل برودة رده وغموضه إلى انشغاله بأبحاث الذرة..
كان المرحوم الرائع حسين البرغوثي يقرأ أمامنا عبارات من كتاب "خطاب إلى الرجل الصغير" لوليهلم رايش. كنا نصغي مشدوهين، يائسين ومضطربين، وكان حسين يقرأ بمتعةٍ بدت لنا غريبة ومفرطة في التأنق والثقة والحب. الآن، أقرأ لنفسي العبارات نفسها، فأشعر أني أهم رجل في العالم، وأن الرجل الصغير الذي بداخلي يتضوّر هزائم ومرضاً الآن.
لم تطق أوروبا وليهلم رايش. حاربته الفاشية وطاردته النازية، أبعد من النرويج والنمسا والدنمارك وألمانيا ولندن وباريس، والدولة الوحيدة التي قبلته أميركا، ليس لأنها تحبه، أو دفاعاً عن جنون أبحاثه الشّيقة، بل رغبةً في التحقيق معه. وفي النهاية، قتلته بالسم في أحد سجونها. تنوعت اكتشافات رايش وأبحاثه، من نظريات علم النفس والاجتماع إلى علوم الطبيعة، وتعمق في نظرية النشوة الجنسية، الأورغازم، التي اعتبر غيابها سبباً لكل مشكلات العالم النفسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
تنقّل رايخ من العلاج النمائي والتدليك وإشباع الأورغازم لخفض التوترات إلى نظرية البيوونات. وبعد ذلك، نقلة سريعة إلى الأثير، حيث لا خلاص إلا بإعادة اتصالنا بالطاقة الإلهية الكونية، وإلغاء الدرع الذي يفصل الإنسان عن الألوهية. إن البحث والعطش والصدق هو الذي دفع رايش إلى إنجاز أبحاثه واكتشافاته، فالبيوون وطاقة الأورغون، ومرصد الأورغون، وصناديق بطاريات الأورغون، والأورغون والذرة، والأمطار الصناعية، والأطباق الطائرة، والكوزموس أو الكون. وأخيراً، الأثير والشيطان والمسيح والله وغيرها... كل ما ذكر بحث فيه رايش بجدية، لكي يصل إلى مسألة واحدة، كرس لها حياته منذ البدء، وهي نهاية العسر الإنساني، وإلغاء جميع مسببات الأمراض.
مات رايش مسموماً في سجن أميركي، عام 1975. وكانت المخابرات الأميركية قد أنفقت على التحقيق معه مليوني دولار، نبشت في كل أبحاثه، وطاردت أصدقاءه، وصادرت مكتبته. عشرات الكتب في رصيد رايش، أهمها (خطاب إلى الرجل الصغير)، يقول عنه مترجمه، رشيد بو طيب، إن على الإنسان العادي الصغير أن يعرف كيف يتعرّف إلى الواقع، فهذه المعرفة وحدها قادرة على أن تقف ضد إدمانه السلطة. يصف هذا الكتاب العواصف التي أحدقت بالحياة العاطفية لإنسانٍ مبدعٍ مغتبط بالحياة، إنه احتجاج ضد النية الغبية والمبيتة للطاعون الروحي، لإطلاق سمومه على رجل باحثٍ وكادح، وهو يفضح كيف يشتغل هذا الطاعون الروحي، وكيف يقف حجر عثرة أمام كل تقدم. ويقدم الكتاب شهادة على الثقة بالكنوز العظيمة الكامنة في أعماق الطبيعة الإنسانية التي وضعت لتحقيق آمال الإنسان. (من مقدمة الكتاب للمترجم).
وليهلم رايش: ابتسم أيها الرجل الكبير. فقد تعلّمت على يديك البشرية الحمقاء كيف تكتشف الرجال الصغار داخلها، وتفضحهم وتطردهم. وأحياناً تبقيهم داخلها عجزاً منها وكسلاً.
ملاحظة: استفادت المقالة في الحصول على تفاصيل حياة رايش وأبحاثه من مدونة علاء السيد، فالشكر له.

دلالات

4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.