قتل والده واستشهد

قتل والده واستشهد

12 ابريل 2015
+ الخط -
لم يكن الموضوع يحتوي على أي نوع من المزاح، أو الدعابة، أو ما يُسَمَّى، في لغة أهل الشام، "التَقْريق"؛ وإنما هو أمرٌ ينتمي إلى قمة الجِدّ والصرامة. فقد نشر موقع "كلنا شركاء" الإلكتروني، نصَّ تغريدة تويترية لقيادي في تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، يمتدحُ فيها شاباً مسلماً ملقباً بالجراح الشامي، نفّذَ عملية استشهادية استهدفت مقراً للجيش الحر في بلدة حور كلس، ووفّقه الله تعالى بقتل أربعين شخصاً، بعضُهم مدنيون، وبعضهم الآخرُ من القياديين في "الجبهة الشامية". وهؤلاء القياديون، صحيحٌ أنهم كانوا يقاتلون ضد نظام بشار الأسد، لكنهم مارقون امتنعوا عن مبايعة مولانا الخليفة البغدادي، فوجب قتلُهم.
وجاء في مديح الشاب الفدائي أنه، عندما عرَفَ حقيقةَ التوحيد، وأدرك أن فعل الساحر رِدّة عن دين الله، ابتدأ بأقرب الأقربين والده الذي كان ساحراً، فقتله قُربةً لله، ولاءً وبراءً!
هذه الحكاية الواقعية الظريفة، فتحت في ذاكرة أخيكم، كاتب هذه الأسطر، طريقاً إلى شخصية واقعية لرجل من بلدتي، معرتمصرين، يعرف بأبي العبد، كان يتملّق الرفاق البعثيين، ذوي المناصب الحساسة في الدولة، ويتحدث عنهم مادحاً، بوصفهم فقراءَ كادحين. وعلى سبيل المثال، كان يذهب لزيارة أحد أعضاء فرع حزب البعث في مكتبه، ويجلس بين الضيوف، متحيناً أن يُعطى فرصةً للكلام، ووقتها يقول للضيوف، متحدثاً عن الرفيق عضو الفرع:
- هذا الرفيق لا يوجد أحسن منه عندنا في البلد، فأبوه، الله يرحمه، كان يصلح بوابير الكاز، و"لمبايات" الإضاءة القديمة ذات الفتيلة. ولا تظنوا أنه كان يمتلكُ دكاناً للتصليح، مثل الناس، أبداً؛ فقد كان يضع عدته في جانب من الطريق، وطوال النهار، تطرش عليه السيارات الوسخَ والطين، عدا عن الدخان الأسود الذي تنفثه البوابير عليه، حتى يصبح وجهه مخيفاً للكبار والصغار.
وبينما هو يحكي، ترتسم علامات الدهشة على وجوه الضيوف، وبعضهم تغلبهم الضحكات، فيُسَرُّ هو لذلك، ويتابع بحماس:
- ليس أبوه وحده من الكادحين، فعائلته القريبة، إخوته وأعمامه وأخواله وأبناء عمومته كلهم طنبرجية وبائعو مازوت.
وإذ يُفْرِجُ بعض الحاضرين عن ضحكات حبيسة، يتابع هو، بكل جدية قائلاً:
- لماذا يضحك الشباب؟ هل تظنون أنني أكذب أو ألفّق؟ لا، قسماً بالله، وها هو الرفيق فلان يسمعني، إذا كنت مخطئاً يستطيع أن يصحح لي. وللعلم فقط، إنهم لا يبيعون المازوت في عربات آلية، وإنما عرباتهم تجرها البغال والكدش. ولذلك، ترى بجوار بيت كل منهم إسطبلاً واسعاً، ومعالف.. يا أخي، تريدون الصراحة والصدق؟ كانت قيادتنا الحكيمة على حق، حينما وضعته في هذا المنصب، فلو مشّطنا البلدة تمشيطاً عسى أن نعثر على واحد (أكدح) منه لن نفلح!
ومن الحكايات المسلية التي تساعدنا في رد عجز هذه الحكاية على صدرها، واحدةٌ بطلُها فلاحٌ من مدينة إدلب، كان يشتغل مرابعاً عند طبيبٍ مسيحي.. وكان الطبيب يحب ذلك المرابع، ويعطف عليه، ويطلب منه أن يقطف ما يحلو له من التين والعنب والفستق والجوز، ويأخذ منها لإطعام أسرته. وفي موسم الحصاد يعطيه كمية كبيرة من القمح والشعير والعدس والقطن المحبوب، إضافة إلى راتبه الأسبوعي، ومكافآت يخترع لها مناسبات حقيقية أو وهمية.
وفي يوم من الأيام، ذهب المرابع إلى أحد أصدقائه، وسأله إن كان لديه للسر مطرح. فلما قال له: سِرُّك في بئر عميق، قال:
- الآن، اشتريت سكينة قاطعة، وقررتُ أن أقتل معلمي الطبيب المسيحي.
ذعر صديقُه، عندما رأى علامات الجد ترتسم على وجهه، وسأله عن السبب، فقال:
- أحاول أن أرد له جمايله التي يغرقني بها، فلا أجد شيئاً يليق بمقامه، فقلت لنفسي: أقتلُهُ؛ فيذهب هو إلى الجنة، وأذهب أنا إلى النار.        
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...