ما بعد الإنسان

ما بعد الإنسان

21 أكتوبر 2015

غيّر الكومبيوتر العالم كله، وقَلَبه رأساً على عقب (9سبتمبر/2015/Getty)

+ الخط -
أهم اكتشاف في تاريخ البشرية النار. وأهم الاختراعات التي نقلت الإنسان من طور التوحش إلى طور التمدن ثلاثة، هي: الدولاب والكتابة والنقود. والحضارات الغربية المعاصرة قامت على ثلاثة عناصر أساسية، جاءت كلها من الصين، هي: المطبعة، ومعها انبثقت ثورة المعارف والعلوم؛ والبوصلة التي أطلقت حركة الاستكشاف في أفريقيا وأميركا؛ والبارود، ومعه بدأت عصور التوسع الاستعماري وتدفق الثورات على أوروبا من المستعمرات الجديدة. وفي هذا السياق، ظهرت السفن البخارية لتقلب قواعد الحروب والتجارة معاً.
اليوم، نحن في عصر الكومبيوتر، مع أنه يعود إلى أربعينيات القرن العشرين، وكان حجم الآلة الواحدة منه يعادل حجم غرفة. وفي سنة 1949 تفاءلت مجلة Popular Mechanics أن كمبيوترات المستقبل لن يزن الواحد منها أكثر من 1500 كلغ. وفي 1950 لم يثر الكومبيوتر إعجاب أي من الذين اطلعوا على هذا الاختراع. وفي 1977 قال كين أولسن رئيس شركة Dejetal Equipment : ليس هناك أي سبب ليكون لكل إنسان كمبيوتر. ولم يمضِ وقت طويل، حتى صنع ستيف وزيناك wozinak كمبيوتر Apple، وصار لكل فرد، اليوم، في المجتمعات التي رضي الله عنها أربعة كمبيوترات: واحد في المنزل، وواحد في العمل، وواحد معلق في رقبته، وواحد في هاتفه الخليوي.
غيّر الكومبيوتر، والإنترنت استطراداً، العالم كله و"شقلبه" وقَلَبه رأساً على عقب، مثلما يقلب المرء جراباته، أو مثلما تقلب فلاحة من بلاد الشام أمعاء خروف لحشوه. فقد كانت التكنولوجيا في المنزل مثل قطع الأثاث التي تمنح المرأة المزيد من الراحة، وتتيح لها التفاخر بمقتنياتها. وهذه الآلات، كالراديو والبراد والغسالة الكهربائية، لم تغير الحياة اليومية كثيراً، بينما يغير الإنترنت، الآن، الحياة اليومية جذرياً، وبشكل متسارع. وكانت المعرفة تنتقل من الكبار إلى الصغار. واليوم، ما عاد الأهل يعرفون أكثر من أبنائهم، بل بات الأبناء يعلّمون آباءهم، وما عاد الولد يفاخر بوالده الذي يعرف كل شيء، فقد صار أعلم منه. والكمبيوتر يتيح للفرد أن يبقى في منزله، وبواسطة فأرة بحجم الكف، يمكنه الاتصال بالعالم، فيعرف ما يجري حوله، ويتحدث إلى أصدقائه وأهله، ويستشير طبيبه، فيعاينه، ثم يصف له الدواء الذي يشتريه من الصيدلية Delivery، ثم يدفع الثمن بالبطاقة المالية، وهو في مكانه. ويستطيع الإنسان أن يطلب ما يشاء من المأكل والمشرب والمنكح، من غير أن يتحرك من مكانه. وبالتأكيد، يمكنه أن يقرأ الصحف ويستمع إلى الموسيقى ويشاهد الأفلام، ويتلقى الرسائل ويجيب عنها، ويسدد فواتير الماء والكهرباء والهاتف، ويدفع الضرائب، ويزور المكتبات والمتاحف، ويشارك في المؤتمرات العلمية أو البرامج التلفزيونية، من غير أن تتزحزح قفاه عن مقعده.
الوجوه الثلاثة للقوة كانت المعرفة والثروة والسلطة، فالمعرفة تعني إطلاق القدرات الهائلة للإنسان من طريق العلم والاكتشاف والفكر والفن والأدب. وتجسدت الثروة والسلطة، في ذروة تجسدها، في الرأسمالية ونظامها السياسي. وبقدر ما أطلقت هذه الرأسمالية ثورات متعاقبة في الإنتاج، أطلقت، في الوقت نفسه، طقوساً تدميرية للمجتمعات الإنسانية والطبيعة. ومع ذلك، ظل الإنسان العاقل يصنع تاريخه بنفسه، بما في ذلك حروبه. وعلى الأرجح، انتهى اليوم عصر الإنسان، وربما بدأ عصر ما بعد الإنسان. فالهندسة الوراثية ستتيح، من خلال التلاعب بالخريطة الجينية للأحياء، تغيير حتى هيئة الإنسان التي عرفتها البشرية طوال تاريخها الجلي.
يبدو هذا التكهن مفزعاً ومخيفاً. لكن، لا أحد مفزعاً في التاريخ أكثر من الإنسان نفسه الذي ملأ الأرض بالقتل الهمجي والمجازر المروِّعة والمحارق الفظيعة والانتهاك الوحشي للطبيعة. وما أكثر ديدان الأرض التي خرجت في هذا العصر، لتلفّ بلادنا بدمويتها من النيل إلى دجلة.

دلالات