داعش وما بعد "العلمانية"

داعش وما بعد "العلمانية"

23 يناير 2015
+ الخط -
لا يتوقف العقل الغربي عن إعادة النظر في الكثير من نظرياته وأطروحاته. ولا يخجل أكاديميون ومثقفون كبار من أن يعلنوا خطأ استنتاجاتهم ويعترفوا صراحة بانتهاء صلاحية أدواتهم واقتراباتهم التحليلية، إذا ما ثبت فشلها، وذلك على عكس ما يفعل كثيرون من كتابنا ومثقفينا. وتمثل أطروحة العلمانية إحدى الأطروحات التي حظيت بجدل ونقاش واسعين طوال العقود الثلاثة الماضية، وأدت إلى مراجعة أسسها وافتراضاتها، إلى الدرجة التي اعترف فيها منظّرون كبار، مثل عالم الاجتماع الأميركي بيتر بيرجر، بخطأ الأطروحة كلها، وعدم صلاحيتها أساساً لتفسير الحداثة والمسار التاريخي للتمدين، والتقدم التي بشّرت بها كتابات الحداثيين. كما قام مفكرون وفلاسفة آخرون، أمثال الألماني يورجن هابرماس صاحب أطروحة "الدين في الفضاء العام"، وتشارلز تايلور صاحب أطروحة "العصر العلماني"، وخوزيه كازانوفا صاحب أطروحة "خصخصة الدين"، بتعديل أطروحاتهم وتطوير أفكارهم حول العلمانية والحداثة، لكي تناسب هذه المراجعات وتلائم التحولات التي تجري على الساحة الدولية.
قامت أطروحة "العلمانية" على فكرة بسيطة، مفادها أنه كلما زادت الحداثة انسحب الدين، وانحسر من المجال العام والمؤسسات، إلى الحيز الخاص، إلى أن ينتهي ويختفي تماماً. وهي أطروحة مهدت لها كتابات عالمَي اجتماع الأديان، ماكس ويبر وإيميلي دوركايهم، قبل قرن، حين أعلنا موت الأديان الكبيرة ونهايتها وسيطرة العقل والتفكير العلمي على سلوك وطريقة تفكير الإنسان. وهو أمر تحقق إلى حد ما، طوال النصف الأول من القرن العشرين، حين انزوت الأديان والحركات الدينية، مفسحة المجال أمام الحركات والفلسفات الإيديولوجية الكبرى، كالشيوعية والاشتراكية والرأسمالية والليبرالية.
ولكن، منذ نهاية السبعينيات، وتحديداً بعد قيام الثورة الإيرانية، حدثت تحولات كثيرة على صعيد دور الدين في المجال العام. فقد شهدت مناطق كثيرة من العالم حالة "انبعاث" جديد للأديان والإيديولوجيات والحركات الدينية. فعلى سبيل المثال، زاد تأثير حركة الإنجيليين في أميركا منذ أوائل الثمانينيات، وكانت سبباً رئيسياً في صعود المحافظين الجدد إلى الحكم في أميركا، كما ظهرت حركة المتطرفين الهندوس في الهند، والمتطرفين اليهود في إسرائيل، وانتشار تيار الصحوة الإسلامية في المنطقة العربية، وذلك حتى وصلنا إلى مرحلة ظهور تنظيم "القاعدة"، وغيره من التنظيمات الدينية العابرة للقارات، إلخ.
مثّل صعود هذه الحركات تحدياً كبيراً لأطروحات العلمانية والحداثة، ولم يكن من سبيل أمام منظّريها سوى إعادة النظر فى أفكارهم، ومحاولة تقديم شرح وتفسير لهذه الظاهرة الجديدة. فسارع بعضهم، مثلما فعل هابرماس، إلى الدفاع عن العلمانية، من خلال الحديث عن "دور جديد" للدين في المجال العام سوف يسود في مرحلة "ما بعد العلمانية"، وهو دور، حسب هابرماس، يقوم على دعم الحريات وحقوق الإنسان، وليس كالدور التقليدي القديم المعادي لقيم العقل والحداثة. في حين اعترف آخرون بشجاعة، مثلما فعل بيرجر، بأن العلمانية لم تعد تصلح لتفسير التحولات التاريخية التي تجري على صعيد دور الدين والحركات الدينية، ويجب البحث عن أطر واقترابات أخرى لتفسير ذلك.
أما الآن، ومع صعود تنظيمات متطرفة في إيديولوجيتها، وبربرية في أدواتها ووسائلها، وتعمل تحت ستار الدين، مثلما الحال مع تنظيمي "داعش" في منطقتنا و"بوكو حرام" في نيجيريا، فإن التحدي لم يعد يواجه فقط نظرية "العلمانية"، وإنما أيضا ما بعدها. فالرهان على أن الدين سوف يعود إلى المجال العام، ولكن بطريقة تقدمية وتحررية، ثبت فشله وضعف قوته التفسيرية. الأكثر من ذلك، لا يمكن الفصل بين ظهور مثل هذه الحركات وفشل محاولات التحديث فى مثل هذه البلدان، وهو ما يطرح أسئلة كثيرة، ليس فقط حول مدى نجاعة نظريات العلمانية وما بعدها، وإنما أيضا حول المشروع الحداثي ذاته.


دلالات

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".