المشهد السياسي التونسي.. خطوات نحو الديمقراطية

المشهد السياسي التونسي.. خطوات نحو الديمقراطية

03 سبتمبر 2014

تونسيون يتظاهرون احتجاجاً على اعتقال نشطاء (23 مايو/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -


كان مجمل الحراك السياسي في تونس، ومنذ نجاح شعبها في إطاحة نظام الاستبداد، يتميز بنمط من عدم الفرز على أساس أيديولوجي، بقدر ما كان، في غالب حالاته، تجاذباً سياسياً، لعبت فيه المصلحة ومنطق التموقع الدور المركزي والأساسي، واليوم والمجلس التأسيسي على مشارف انتهاء مهامه، واقتراب أجل الاستحقاق الانتخابي القادم، ما زال الوضع السياسي يشهد اشتغال آليات الفعل السياسي نفسها، من دون أن يعني هذا أنه لم يعرف تغيراتٍ على مستوى الممارسة والتقاطعات السياسية، فكيف يمكن فهم آلية العمل السياسي الحزبي في تونس اليوم؟ وما الذي ينتظر المسار السياسي التونسي، في ظل التطورات المتلاحقة في المشهد؟ وهل بدأت تونس خطواتها إلى الديمقراطية الفعلية؟

بدايةً، يمكن القول إن الديمقراطية من أهم الآليات التي وضعها الإنسان لحل مشكلاته السياسية، بحيث أصبحت تقارب المثال الذي يطمح إليه الجميع، ولعلنا نذكر ما قاله روسو إنه "إذا وجد شعب من الآلهة، فإنه سيحكم نفسه ديمقراطياً"، فما بالك بتجمع بشري، أياً كان، فالديمقراطية، بهذا المعنى، تمثل مطلباً ملحاً بوصفها آلية، لا تطلب لذاتها، وإنما هي الأداة التي يمكن أن تحقق غاية الدولة، وهي حسن إدارة شؤون الناس، وتحقيق العدالة على نحو أقرب إلى الكمال. إنها النظام الذي يقوم على إدخال العقلانية في مجال تدبير الشؤون العامة بالانتقال من سلطة الأفراد إلى سلطة المؤسسات، فهي على خلاف أنظمة الاستبداد التي تعتبر الحقوق هبات وأعطياتٍ، يتكرم بها صاحب السلطان على رعاياه، وإن شاء استعادها، ما دام محكوماً بهواجس أمنية، يأخذ الناس بالشبهة، ويمارس عنفاً على المجتمع، وفي المقابل، ما يسود دولة القانون هو ضمان الحريات والحقوق الأساسية التي يتمتع بها المواطن بمقتضى إنسانيته.

وإذا انتقلنا إلى النموذج التونسي، فإن نمط الفعل السياسي في هذا البلد، وربما خلافاً لمناطق عربية أخرى تميز بجملة سماتٍ لا يمكن إنكارها، وهي التي تؤثر، الآن، وستؤثر مستقبلاً في نمط الممارسة السياسية التونسية:

أولاً، تميّزت الثورة التونسية بأنها أقل الثورات العربية دموية، حيث انسحب زين العابدين بن علي، قبل أن يتحول الحراك الشعبي إلى تمرد مسلح، مع ما يعنيه هذا الأمر من الوقوع في فرز فصائلي، وربما تصفيات واسعة، على نحو ما نشاهده في سورية وليبيا، أو مصر ما بعد الانقلاب، على سبيل المثال.

ثانياً، لم يكن للتدخل الخارجي دور يذكر في الثورة التونسية، بل فوجئت الساحة الدولية ذاتها بما حصل، ما منح الشعب التونسي فرصة التقاط الأنفاس، قبل أن يبدأ التدخل الدولي، بما يعنيه من تلويث للمشهد، وهو ما حصل بعد نجاح الثورة، وليس قبلها، وهذا فرق ليس هيناً ولا بسيطاً.

ثالثاً، تميزت الأحزاب والجماعات التونسية المختلفة ببراغماتية عالية، جعلتها ذات قابلية للحوار والتحالف والتعامل مع الأصدقاء والخصوم، من دون خطوط حمراء، أو موانع فاصلة ونهائية، ويكفي أن نستذكر منطق التحالفات والتوافقات الذي قامت عليه السلطة، بعد الثورة (الترويكا بأحزابها المختلفة المشارب والانتماءات، أو حكومة التكنوقراط لاحقاً) وأيضاً، الحوارات المختلفة التي تجري بين كل القوى سراً وعلانية، لندرك أن مسألة الصراع في تونس ظلت محكومةً بسقفها السياسي، لا غير.

لقد تصرفت القوى الحزبية بمنطق سياسي بعيداً عن السجال الأيديولوجي، فحركة النهضة الإسلامية، مثلاً، اختارت الميل إلى التوافقات، والابتعاد عن منطق المغالبة، ولم تركن للغة الأدلجة، كالحديث عن أسلمة المجتمع، أو إقامة الدولة الإسلامية، بل تحولت إلى منافح عن الدولة المدنية القائمة، وتصرفت بوصفها حزباً يطمح إلى البقاء في السلطة، عبر الآليات الانتخابية الممكنة، وأحزاب اليسار تصرفت بعيداً عن شعاراتها الدوغمائية الكلاسيكية، وبحثت عن تحالفات بين خصوم الأمس، وتصرفت بانتهازية عالية أحياناً، خصوصاً في ملف إقصاء أنصار النظام السابق، وحاولت استثمار أخطاء خصومها السياسيين، لتجييرها إلى مكاسب انتخابية لمصلحتها، مستفيدة في هذا من حضور إعلامي مميز، ومن امتدادات داخل الاتحاد العام التونسي للشغل.

أما الأحزاب الدستورية، وعلى الرغم من ارتباطها العضوي بالنظام السابق، فقد نشأت بوصفها تعبيراً عن تشكيل مصلحي انتهازي، لا يتفق على مبدأ، ولا يستكين لأيديولوجيا، واستطاعت، في مدة وجيزة، في ظل ضخ مالي ودعم إعلامي واسع، التحول إلى رقم انتخابي مهم ومؤثر، وسيكون له دوره في الانتخابات المقبلة، مستفيداً في هذا من بقايا النظام السابق، المتضررين من الثورة، بالإضافة إلى عجز اليسار عن تجميع الناخبين (يتميز اليسار بالقدرة على التحريض، لكنه عاجز عن بناء قاعدة ناخبة لصالحه).

وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن منطق المصلحة، وهو جوهر السياسة، هو الذي يحكم الفعل السياسي في تونس، اليوم، إلى الحد الذي أصبح معه من العسير التنبؤ بمنطق التحالفات المقبلة (ما بعد الانتخابات)، فمن الممكن أن نجد "نداء تونس" و"النهضة"، مثلاً، في حكومة واحدة، على الرغم مما يبدو من صراعٍ سياسي حاد بينهما، كما قد تشهد الساحة استقالات وانسحابات، وإعادة تشكل لمواقع بعض القيادات، وهو ما نلاحظه في تنوع رؤساء القوائم الانتخابية المختلفة التي رشحتها الأحزاب في أفق الانتخابات المقبلة.

ويخضع المشهد السياسي التونسي لتجاذبات سياسية/ مصلحية، لا يمكن التغاضي عنها بأي صورة، فبنية الممارسة السياسية التونسية، في هيكلها العام، جزء من منطق التعايش ولعبة التوافقات التي تضطر الفرقاء المختلفين إلى محاولة إيجاد موطئ قدم، ضمن حالة علائقية، تقوم على موازين القوى في المشهد السياسي، وهو أمر يمثل العمود الفقري لكل تجربة ديمقراطية ممكنة، باعتبارها تتأسس على أشكال من الحوار المتبادل، والابتعاد عن كل صور النفي والإقصاء في لعبة "تنظم التناقضات، وتعوض المعارك المادية بمعارك بين الأفكار، فتحدد بواسطة الجدالات والانتخابات من سينتصر مؤقتاً من بين تلك الأفكار المتصارعة" كما يقول إدغار موران.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.