نعيم الغزاوي في مستشفى مصري

نعيم الغزاوي في مستشفى مصري

04 اغسطس 2014
+ الخط -

لم أكن أتصوّر أن تكون تلك طفولة مجتمع من المجتمعات البشرية العادية، فهو ليس طفلاً، بمقدار ما هو آهات زمنية، تشتكي الخلق للخالق.
جاء نعيم غزة ليعلّمنا لغة جديدة بحروف جديدة، لا يتقنها ولا يستوعبها مَن هو شبه إنسان.
في إحدى مستشفيات القاهرة المكلومة، وفي غرفة تطلّ على أحد أكبر ميادينها، يقبع الطفل نعيم الغزاوي، مقيداً في سريره الأبيض، مع أربطته التي تكبّل معظم عظامه الهشّة الرقيقة. سألته من أي أحياء غزة أنت يا نعيم؟ فقال: خان يونس.
وكيف كانت إصابتك أيها الرجل الصغير؟ قال: صاروخ قتل تسعةً، كنت عاشرهم، منهم أخي الذي يكبرني بعامين.  
طلبت منه أن يطلب مني شيئاً أشتريه له، أي شيء، فرفض نعيم بشدة. حايلته حتى ابتسم، وقال لي أحد الموجودين إنه لم يتحدث منذ أتى، فعرفت أنه حين أتى مصر، لم يكن يعلم باستشهاد أخيه ورفيقه قرب الشاطئ، فطلبت منه أن يحدثني عن أخيه.
نظر إلي، وقال: أنظري لي جيداً، فأطلت النظر إليه، فابتسم، وقال: هكذا أخي، كان كأنه أنا، لكنه دوماً يبتسم.
....
ذلك هو نعيم غزة. ذلك هو مستقبلها، وذلك هو شعبها الذي أتى بتلك المقاومة التي أركعت العالم حتى ثار لها، وما ثار إلا من بعد ما رأى القوة والعدل والحكمة والصبر والصمود والثبات والإبداع المنقطع النظير، سياسياً واستخباراتياً وعسكرياً.
عشرة أطفال ينتشرون على شاطئٍ، منهم مَن كان يلهو بقارب صيد، ومنهم مَن كان يسابق الريح والموج، لتشهد الرمال على مأساة أمةٍ هان عليها أطفالها.
كانوا يمارسون بعض طقوس الطفولة، متناسين الهجوم الضاري غير الإنساني وغير الأخلاقي، وهو هجوم تقوده كتل متجسّدة من الحقد الأعمى والأسود، على شعبٍ محبوس داخل قطاع، لا ماء، لا كهرباء، لا طعام، لا دواء. غير مسموح، هنا، بحق الحياة.
لكن أطفال غزة لم يفهموا بعد معنى القيد المفروض على شعب حر.
إنهم أحرار العالم، فكيف يُحبسون عن رغبة هي الشرط الأول من شروط الحرية، أن تعيش في بلادك طفلاً حين تكون طفلاً؟
خرج الصغار يمرحون. يحكي لي نعيم أنه لم يكن صاروخاً واحداً، فقد ضربوا الأول، فأشعل قارب الصيد وهرب الأطفال. لكن، ليس بعيداً، كي يشاهدوا ماذا حدث للقارب، ومن أين أتى الصاروخ. عشرة أطفال هرول كل منهم في اتجاه، ونعيم كان في اتجاه الأبنية على الشاطئ، كل منهم كان يهرب للموت بطريقته، أما نعيم، فقد أبى إلا أن يكون شاهد الموت.
وألقي الصاروخ الثاني، لتضيع من عين نعيم معالم المكان، وبعدما كان يستند إلى حائطٍ يحميه من صواريخ الحقد الصهيوني، إذا به يستند لكومة من الركام، وخفتت الأصوات، ولم يعد هناك سوى أنين.
يصرخ نعيم على أخيه، فيضيع النداء مع صوت الصاروخ الثالث الذي يقضي على كل شيء. وانطفأ بريق كل شيء، وانعدمت كل الأصوات، لتستحيل أطيافاً، تحمل شكواها لربها.  
يجد نعيم نفسه في القاهرة، ولأول مرة يغيب عن خان يونس التي لا يعرف غيرها، ويغيب عن أخيه الذي لم يفارقه يوماً.
حاولت استجماع ما تبقى لديّ من قوة، حتى أبثّه إياها، فوجدتني، رغماً عني، ألتمسها منه.
ذلك الطفل ـ الرجل، قلت له: حين تسير على قدميك بإذن الله، سوف آخذك في رحلة نيلية، ترى النيل، والهرم، والقلعة، والمتحف.
وجدتني كالبلهاء، وأنا أتحدث إليه عن مصطلحاتٍ لا يعرفها، ولم يسمع بها من قبل، فهو لم يعرف من مصر سوى عسكري على الحدود المصرية، وقف حائلاً دون دخولهم، على الرغم من أن الأب المكلوم حاول تقبيل قدميه، لكي ينقذ ابنه المتبقي له، وإلى أن جاءت الأوامر بإدخالهم.
لم يعرف ما أقول، وكان حريّاً بي أن أستخدم مصطلحات هو يعلمها جيداً. بل لا يعلم غيرها. أحرار، مقاومة، حرية، ثبات، مروءة، شجاعة، أنفاق، حصار، مخيمات، ترحيل، حق العودة.
هذا هو ما فهمه نعيم مني.
نعيم غزة، الطفل ـ الرجل.

13270612-18EF-4EC9-83F9-3E0A14D243E7
13270612-18EF-4EC9-83F9-3E0A14D243E7
عزة مختار (مصر)
عزة مختار (مصر)