الصَّبُّوحة.. والشّبّيحة

الصَّبُّوحة.. والشّبّيحة

30 نوفمبر 2014

المطربة صباح (1927-2014)

+ الخط -

لا علاقة لهذه الكتابة لها برحيل المطربة "الصبوحة"، يوم ‏الأربعاء الفائت، فأنا، محسوبكم، لا أحب الكتابة في المناسبات، وأرى أن ‏رحيلها ليس مناسبة، وحتى تزامُنَهُ مع ارتكاب نظام بشار الأسد مجزرة في ‏مدينة الرقة، أودت بحياة 230 مدنياً، لا يعني أنه مناسبة، فالحدث الأول، ‏رحيل الصبوحة، أمر منتظر، وقد بلغت السابعة والثمانين، والحدث الثاني، أعني ‏المجزرة، ليس الأول، ولن يكون الأخير ما دام العالم كله ساكتاً عن هذا ‏المجرم التاريخي بشار الأسد.‏
الصبوحة هو اسم التحبّب للمطربة اللبنانية الظريفة صباح، واسمها الأصلي جانيت فغالي، وتُعْرَفُ، كذلك، باسم صخرة لبنان، وشحرورة الوادي... ولئن بقيت الصبوحة واقفةً على مبعدة من مملكة الرحابنة الفيروزية، ولم تدخل إلى قصر إبداعهم المنيف، فإنها لم تَمَّحِ، ولم تصغر، ولم تخسر اهتمام الناس بها وبفنها، وبقيت عصفوراً (في قلب الوادي)، شحرورة مترغلة، تَجْمَعُ في شخصيتها بين صفاتٍ حميدة كثيرة، كقوّة الصوت، وحسن الأداء، والرشاقة، والظرف، والمرح. 
وأما الشبيحة فهم الأشخاص المتطوعون الذين ينتمون كليةً إلى النظام السوري؛ بعضُهم يحملون السلاح للدفاع عنه، ويرتكبون، في أثناء ذلك، ما يحلو لهم من قذارات، كالاعتقال، والتعذيب، والاغتصاب، والسرقة (التعفيش)، والقتل العشوائي، من دون أن يعترض أحدٌ على تصرفاتهم، لا بل ويقبضون المال لقاء تشبيحهم! وبعضهم الآخر عُزَّل، لكنهم يمارسون التشبيح في الإعلام المقروء والمرئي والمسموع، ويُعْرَفُون بلقب "النَبِّيحة".. وهذه التسمية الأخيرة لا يمكن الإقلال من شأنها، فقد سبق للفيلسوف العربي الكبير، أبي العلاء المعري، أن أَلَّفَ كتاباً يحمل عنوان "زَجْر النابح"، يردُّ فيه على شخص مارس "التشبيح" على لزومياته، ولو كان المعري يعيش بين ظهرانينا اليومَ لأطلق على كتابه اسم: زجر النبيحة!
في بداية الثورة السورية، كانت تحصلُ أمورٌ طريفة جداً، تتعلق بالربط بين حادثة ما، ومسبباتها. مثلاً، يَقْتُلُ الثوارُ المسلحون، في الغوطة الشرقية، ضابطاً في استخبارات النظام، فيغضبُ نبيحةُ النظام، ويذهبون إلى أقرب استوديو تلفزيوني، أو أقرب فيسبوك، ويقولون بالفم الملآن:
- أرأيتَ يا برهان غليون؟ أعجبك هذا يا نجاتي طيارة؟ هل يرضيك ما حصل يا ميشيل كيلو؟
وكان هذا الكلام يعني، ببساطة، أن الحق على المثقفين السوريين البارزين، لأنهم لم يقفوا مدافعين عن الاستيلاء الإيراني الصريح على القرار السياسي السوري، ولم يقنعوا الناس بأهمية تحويل سورية إلى جمهورية رعب وراثية، ومن ثم لم يقفوا في وجه الثورة السورية التي سميت، في قاموسهم، مؤامرة كونية!
وفي بداية الثورة، أيضاً (وكنت أعيشُ مهدداً بالاعتقال، ولا سيما بعدما ظهر اسمي في قائمة المطلوبين لفرع الأمن العسكري في إدلب)، حصلت الواقعة التالية:
شرع أحد نبيحة النظام يهاجم المخرج السوري الكبير، هيثم حقي، عبر "فيسبوك"، بسبب التهمة نفسها، أي عدم وقوفه في صف إيران ونظام الأسد الوراثي، فتدخلتُ أنا وكاتب سوري معروف سأرمز له بالحرف (صاد)، للدفاع عن هيثم، وإذا بالنبّيح يكتب على صفحته: ومعروفٌ أن هذين الكاتبين، صاد وخطيب بدلة، يقودان ما يسمى الثورة ضد السيد الرئيس بشار الأسد!
هذه الطريقة الغريبة في "التشبيح" و"التنبيح"، وتضخيم التهم، لم تبقَ، في الحقيقة، محصورة ضمن اختصاص الرجال الموالين لنظام الأسد، فقد تسرّب هذا النهج، وللأسف، إلى صفوف الثوار والمعارضين، بدليل أن أي واحد اليوم، يحكي كلمتين طيبتين بحق هذه المطربة "المهضومة" صباح، التي حفرت في ذاكرتنا عالنَدَّا النَدَّا النَدَّا، وجيب المجوز يا عبود، والعصفورية، سيصطدم بكمٍ هائل من جماعتنا، جماعة الثورة، يقول له:
- أليس عيباً عليك أن تحكي عن المطربات، والصّبُّوحة والمَبُّوحة، بينما دماء شعبك تسيل في الشوارع كالأنهار، وبلادك الحبيبة لم يبق فيها حجر فوق حجر؟
مع هذا كله: تحية لروحك أيتها الصبوحة.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...