وظيفة القراءة والكتاب في بناء مجتمع النهضة

وظيفة القراءة والكتاب في بناء مجتمع النهضة

30 أكتوبر 2014

عمل بصري لـِ (هنريك سيورفينسن)

+ الخط -

تضطلع القراءة في المجتمعات المعاصرة بدور مهم ومركزي في كل القضايا، بحيث أصبحت مؤشراً دالاً ومقياساً يمكن منه النفاذ إلى عمق المجتمع، والإحاطة بطبيعة اهتماماته ومدى تحقق التنمية والتقدم فيه، في حال كانت القراءة تشكل صلب اهتمام هذا المجتمع. وتكون كذلك دلالة ومؤشر تخلف وانحطاط، إذا كانت القراءة على هامش الاهتمامات، وكان الكتاب آخر ما يلتفت إليه؛ وبذلك، يكون أمر القراءة واعتباره مؤشراً لقياس حركية المجتمع ليس حصراً على المجتمعات المعاصرة، وإنما، منذ القدم، كانت للمعرفة سلطة على باقي المجالات السياسية والاجتماعية وغيرها، ومعظم الطفرات التي مرت منها الإنسانية إنما كانت تتم، بدايةً، في الوعي وتشكل الأفكار قاعدتها؛ وهاته المكانة التي تحظى بها القراءة، ويضطلع بها الكتاب، يدفع بنا للبحث في الأدوار التي يمكن أن تضطلع بها القراءة، وكذا وظيفة الكتاب والمعرفة في بناء مجتمع النهضة.


مبادرة قراءات والاحتفاء بالكتاب

مبادرة بسيطة أطلقها باحث مغربي شاب (م ب)، في دورتها الأولى، على شكل اجتماع شهري، لمدارسة أحد الكتب الجديدة في دور النشر، للكتاب الشباب الذين بدأوا مشوارهم حديثاً في التأليف والإنتاج المعرفي والعلمي، واختار للدورة الأولى من هاته المبادرة اسم "صالون يقرأون"، في مكتبة عبد الكريم الخطيب التي وضعها المفكر المغربي، المقرئ الإدريسي أبو زيد، رهن إشارة الطلبة والباحثين في مدينة الجديدة المغربية. ونظم "صالون يقرأون" في الموسم الماضي لقاءات دراسية لكتبٍ ومؤلفاتٍ كان منها يوم دراسي حول المفكر وخبير المستقبليات، المهدي المنجرة، بهدف التنبيه لهذا العقل الفريد المنسي في وطنه وبين ذويه؛ وكان انطلاق مبادرة قراءات على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك ويوتوب) فرصة للتواصل مع أكبر قدر ممكن من وسائط جديدة وبآليات ووسائل مختلفة، غير التي يتيحها لقاء الصالون الفكري في فضاء مكتبة، وبطريقة تقليدية، حيث  تكون نسبة التفاعل فيها ضعيفةً، مقارنة مع ما تتيحه الشبكة العنكبوتية ووسائل الاتصال الحديثة من نقل للأفكار وتعميمها، وتبادل الآراء والمعارف، بالنسبة للمهتمين والراغبين في الإفادة والاستفادة. وكان مثيراً أن أطلقت ضمن المبادرة تحديات حول ذكر الكتب العشرة الأكثر تأثيراً في مسار القارئ، على غرار تحدي دلو الثلج؛ ما يجعل من إثارة القراءة حاجةً ملحّة للحديث عن الإمكانات التي فتحتها القراءة، ويمكنها أن تفتحها في مختلف الأوساط والمجالات عند مختلف الأمم.

وقبل هذا الأنموذج الذي يعد احتفاءً بالكتاب، ومباردة تسعى إلى تنصيب الوعي حكماً على ما دونه من الاعتبارات، كانت هناك مبادرات سابقة، كان عمودها الشباب والطلبة والأساتذة، يضربون لأنفسهم موعداً أسبوعياً في الفضاءات العامة في شوارع المدن وفي المنتزهات والحدائق، من أجل ساعة مخصصة للقراءة، ولم تكن من غاية خلف هاته المبادرة وغيرها سوى إعادة الاعتبار إلى الكتاب، ولفت الانتباه إلى أهميته وضرورته، للارتقاء بالوعي المعرفي والسلوك الاجتماعي. وقد كانت مواقع التواصل الاجتماعي الحاضنة مثل هاته الأفكار والمبادرات، بنشرها وتعميمها بين مختلف الرواد والمتتبعين.

الكتاب في زمن ثورة الاتصال 

إذا أطلنا النظر الفاحص والناقد للوظيفة التي باتت تضطلع بها مواقع التواصل الاجتماعي في صياغة المخيال الثقافي لأغلبية روادها من الشباب، فسنجد المتداول من الكتب والأفكار ومختلف التعبيرات التي تقصد بناء وعي وعقل ناقد قادر على التحليل، وعدم السقوط  في  القراءات السريعة للأحداث والوقائع إلى صياغة موقف ورأي يتسم بالعمق، شبه معدوم، أو يندر في مواقع التواصل الاجتماعي التي أحدثت طفرة في العلاقات الاجتماعية والثقافية، وعلى الإنسان نفسه، ومن يدري كيف سيصير الغد القريب، فتحول الإنسان الفرد إلى أسير لهاته المواقع، وما تقدمه، بل إنها تشكل جزءاً أصيلاً من حركاته وسكناته، لكن السلبي، كما سبق، أن الإنسان صار أسيراً، ولم يسخر كل هاته الإمكانات التي فتحتها ثورة المعلوميات، لتعميق معارفه، أو لنشر الوعي السليم، بدلاً من الوعي المسطح والمزيف الذي أصبح يثير رغبة كثيرين، ويستميل جمهور ورواد أغلب رواد مواقع التواصل الاجتماعي، بل إن معظم اهتمامات الناس مجرد انطباعات، وتماهي مع الثقافة الاستهلاكية والوعي السائد في معظم العروض التي تقدمها الشبكة العنكبوتية، وهو وعي متحكم فيه عن بعد، بحسب حاجة السوق وغاياته.

مثل مبادرة قراءات، أو أي نموذج يعيد المكانة اللائقة للكتاب، هي أنموذج يغطي الفراغ الحاصل في مواقع التواصل الاجتماعي، ويهدف إلى إعادة الوعي بأهمية الكتاب ووظيفته والقراءة ومكانتها، في إحداث النقلة في عقل الإنسان الساعي للنهوض والتحرر، وكذا في واقعه الاجتماعي؛ فالمصالحة مع الكتاب وحدها الكفيلة بترشيد الوعي وتحرير الإنسان والمجتمع من القيود التي تعوق أي نهضة، أو انتقال ممكن من حالة الجمود والهزيمة التي تجرها الأمة العربية والإسلامية خلفها، طوال قرون، إلى  حالة من الصيرورة والديناميكية الثقافية والمعرفية التي تؤثر في عقل الإنسان وحركة المجتمع، فيتحرر الإنسان والمجتمع من الهزيمة النفسية، ومن العطل المعرفي الذي كان أهم سمات تخلفنا.

أثر الكتاب في نهضة الغرب

تعتبر القراءة، من المنظور السابق، منطلقاً وقاعدة لبناء مجتمع نهضوي وأمة فاعلة بين باقي الأمم التي شيدت عمرانها الحضاري، على أساس متين من النقد الثقافي والمعرفي لكل الترسبات التي حملتها مرحلة التخلف القروسطوي في الغرب، ورعاها الاستبداد الذي تمثل في تحالف الإقطاع مع الكنيسة، للإبقاء على الجمود والجهل والوقوف حائلاً أمام أي محاولات للتفكير الحر، أو إعمال للعقل، حتى إن كتباً تم حظرها، لأنها كانت تستهدف أنموذج الوعي الزائف الذي كانت تروجه الكنيسة والفئات المتحالفة معها، لأنها كانت ترى في ترويج كتب تنشر معارف وأفكاراً تعتبر محظورة، بمثابة قاعدة لتشكيل انبعاث فكري وثقافي، متحرر من ربقة الالتزامات الكنسية التي تفرضها على النخبة والمجتمع، الأمر الذي سيؤول بفعل التراكم إلى حركة فكرية واجتماعية، تقوض الأنموذج القائم، أنموذج التكفير الكنسي، وتشيع قيماً تبشر بميلاد مجتمع حر ومنفتح، يرعى الاختلاف والتعدد، ويحترم الإنسان باعتباره كائناً مفكراً لا يخضع للتنميط، ذلك هو أنموذج التفكير العقلاني الذي وضع الملاح الأساسية للنهضة الأوروبية، وكان سمة بارزة لعصر الأنوار.

ما سلف من احتكاك وتماس بين أنموذج التكفير الكنسي ومنطق التفكير العقلاني انتهى برجحان الكفة التي انبعثت من بطون الكتب والمؤلفات التي تشيع قيم التفكير والعقلانية، وتؤمن بالحوار والاختلاف والتعدد، في مقابل الانغلاق والتزمت، ورعاية التخلف والنكوص. كان النقد، في بدايته، يتجه صوب الفكر الديني، ويبشر بالإصلاح لهذا المجال على يد رموز من داخل الكنيسة نفسها، ثم تطور الأمر إلى حركة في الفكر والثقافة، تعكس، في جوهرها، خصيصة إنسانية وتطلُّع المجتمع حينئذ، فانتصر الكتاب على السيف، والعقل الحر الناقد على التفكير الدوغمائي الجامد، وعلا صوت التفكير والإبداع على منطق التكفير الذي رعته الكنيسة، وأدى بمفكرين كثيرين إلى المشنقة وسراديب التعذيب؛ وذلك كله قبل أن يأتي عصر الثورة، فكان ترويج  الكتاب وإشاعة النقد المعرفي والثقافي بمختلف الوسائط،  يحمل ثورة في عقل الإنسان ووجدانه، قبل أن تتحول إلى ثورة اجتماعية عارمة، وتلك أحد السمات البارزة للنهضة الأوروبية، حيث كانت الثورة، في بدايتها، ثورة ثقافية ومعرفية، تهدف إلى إعادة تشكيل عقل الإنسان ووجدانه، أو بالأحرى، تحريره مما يكبله، قبل أن تتحول إلى مطالب اجتماعية وسياسية، تهدف إلى تغيير الواقع بما يطابق تطلعاته وأفكاره التي يؤمن بها، وهي التي عكستها المقولة الشهيرة، "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس".


المعرفة النقدية في سياق الربيع العربي

يأتي سرد أثر التفكير والتثقيف في المجتمع الغربي، وصياغته ملامح وقسمات مجتمع النهضة وقسماته، هنا، بهدف الإفادة للسياق والمخاض السياسي الذي يمر به المجتمع العربي، منذ أربع سنوات، وهو مخاض عسير، يهدف إلى تشييد نظم سياسية ديمقراطية، تعكس تطلعات الإنسان العربي وأحلامه، غير أن هذا المخاض يحتاج عمقاً معرفياً وثقافياً يسند التغيير السياسي، ويعكسه في الخطاب الذي يتم ترويجه في الفضاء العام ومختلف وسائط الاتصال، ويساعد على إدراك أبعاد اللحظة السياسية، والكامن خلفها، واستشراف المستقبل السياسي والحضاري، بحيث يتم الارتقاء بروح الربيع، من ربيع سياسي، قد يزهر حيناً ويذبل حيناً آخر، إلى استبصار نهضوي وتغيير حضاري، تنضاف فيه لمسات التفكير النقدي والتأسيس المعرفي والثقافي إلى جانب المطالب السياسية والاجتماعية لمختلف الشعوب العربية. وبذلك، نستطيع فهم أي ردة أو نكوص في لحظة على منجزات الربيع، بكونها منعرجاً سياسياً فقط، لن تؤثر في مسار حركة التاريخ التي تدفع المجتمعات العربية لبناء نهضة، وتشييد حضارة قائمة الذات؛ فقراءتنا لحظة بمنظور سياسي ضيق لا يستحضر عمق الحدث، باعتباره يستهدف الوجدان والعقل المستشرف لنهضة، سيجعلنا نحكم بالسلب على الواقع العربي، في حين نجد الإنسان والمجتمع العربي تحرر من عقاله وانطلق، ولم يعد في حالة جمود، ويبقى الدور فقط على إسناده بالمعرفة والثقافة، حتى يدرك الخطى التي يخطوها، والمسار الذي يشقه.

أهم ما يؤخذ على الربيع العربي أن الفاعلين فيه يفتقدون خطاباً يعكس حقيقته وأبعاده كاملة، فاجتر فاعلون كثيرون خطاباً كان منسوجاً سلفاً، في عقود تتسم بسماتٍ، لا يمكنها استيعاب التغيير الحاصل، بل إن مجرد استصحاب النموذج القديم في التفكير السياسي، وفي قراءة المتغيرات واستشراف الآفاق، هو إخفاق، في البداية، قبل الانطلاق؛ فانطلق الربيع وتدفق شلاله الهادر، بينما بقي فاعلون سياسيون، ونخب فكرية وثقافية كثيرون، تحاول اللحاق به، بهدف استيعاب معطياته وحقائقه، إنها حقائق ومعطيات تحمل في جيناتها بصمات التغيير وقسمات المستقبل، لكن صياغة هذا المستقبل تحتاج خطاباً يستهدف إحداث تغييرات في وعي الإنسان ووجدانه، إلى جانب نقد البنيات التقليدية في السياسة والاجتماع والفكر، والتي تشكل أحصنة منيعة للخطاب الذي يعادي الربيع، ويسعى إلى تأبيد الاستبداد والسلطوية، أو الانغلاق والتطرف.

فوظيفة الخطاب المعرفي النقدي الذي يخدم الربيع باعتباره نافذة نحو النهضة، ينبغي أن يعمل بالتوازي بين منطق البناء والتشكيل لأنموذج يرعى الديمقراطية والحريات والكرامة الإنسانية، ويحقق العدل بين الناس. ومن جانب آخر، يشتغل على نقد الترسبات التي استُنبتت في مشتل التخلف، وعلى جنبات الاستبداد والتسلط، وهو نقد يتجه، بدايةً، إلى جزء من الخطاب الديني الذي نشأ في حضن السلطوية، ويذود عنها ويرعى التقليد والجمود، وقد رأينا كيف تحولت مؤسسات دينية إلى أدوات طيعة في يد الاستبداد، بمجموعة من البلدان العربيّة، بل إن رموزاً دينية اتجهت إلى تأسيس مؤسسة جديدة، للاضطلاع بالدور نفسه، والقيام بالوظيفة نفسها، وهاته الحمى على الخطاب الديني لأنه يعتبر أساسياً في تشكيل وعي الإنسان العربي. لذلك، سيكون نقد الفكر الديني الذي يرعى الجمود والتقليد، أو التطرف والمغالاة وإشاعة فكر ديني مستوعب لحقائق الربيع النيرة، أحد الإنجازات التي تصيب جزءاً من شرعية الاستبداد والتخلف؛ وإلى جانب نقد الفكر الديني، ينبغي القيام بنقد السلوك الثقافي والخطاب المعرفي الذي يبرر الوضع القائم، ويشرعن للنكوص، فالثورة السياسية تحتاج ثورة ثقافية توازيها وتحميها.


خاتمة

القراءة هي الكفيلة بترشيد الإنسان العربي، وكل إنسان، في مختلف المجالات، ودمجه سريعاً في مسار النهضة والتغيير التي تطال مجمل حياة الإنسان، وعلائقه السياسية والاجتماعية والثقافية. وقد وقفنا مع نماذج تغييرية من الغرب والشرق، وكان هدفنا محاولة رصد أثر الوعي والمعرفة في كل تلك التغييرات، ذات الطابع الحضاري، وليس السياسي وحسب، فللمعرفة سلطة لا تقهر، والقراءة أول مداخل بناء المعرفة، وأهم وسائطها. ونحن أمة ذات سبق في إشاعة حب الكتاب، والتعلق بالمعرفة في ماضينا الحضاري، بل إن "اقرأ" بصيغة الأمر أول ما نزل من القرآن الكريم، وليس "اعبد"، أو "صلِّ"، أو "جاهد" كما يفكر الدواعش الذين ظهروا في سياق الانحراف عن التفكير العقلاني؛ ويكفي المرء أن ينقب قليلاً في تاريخ الحواضر الإسلامية، في المشرق والمغرب، ليدرك أثر الكتاب والقراءة في بناء الحضارة العربية والإسلامية في حينه، وذلك ما ننشده للمستقبل.