وفي بعض الوفاء محبّة

وفي بعض الوفاء محبّة

04 أكتوبر 2023

(بهرام حاجو)

+ الخط -

عندما يرحل من تحبّ، فعليك أن تواجه من يُنكر عليك حزنَك ووفاءك بأن يقول لك أحدهم كما قال لي: لقد كان متقدّما في السن ومن الطبيعي أن يموت، بل أن يموت فجأة كما حدث لوالدك، فلم كل هذا الحزن الذي يكاد يوصلك إلى درجة الجنون. ومن الطبيعي أنك لا تجد ردا على هؤلاء الذين يستغربون حزنك ووفاءك، وأنت تتلمّس كل شيء يذكّرك به، حتى وأنت مثل تلميذ خائب فرّ من المدرسة، ولكنه يتوقّف لحظة، لكي يتأكّد أن أحدهم لم يلحظ هروبه، فتقف بمحاذاة سور المدرسة التي عمل فيها معلما أكثر من 40 سنة، وتنظر باتجاه صفّ بعينه، وتسرح بعين خيالك، وتتنهد وكأنك تسمع صوته، وهو يطلب من تلاميذه أن يعيدوا ما قاله باللغة الإنكليزية، بل تشعر كأنك تسمع جرس الكلمة المكوّنة من خمسة حروف، ثم تكمل طريقك متعثرا بدموعك.

قلة من يجيدون الحب مع الوفاء، وقلة من يرون أن الحياة كانت بهم. ولذلك كثيرون يهاجمونهم، وكأن هذا الحب جريمة، وربما لأن قسوة الحياة اليوم لا تجد فيها متّسعا للمشاعر الإنسانية بين الأحياء، فكيف ستكون بين حيّ وميت، فمن الطبيعي أن تواجه من يستغرب مشاعر الوفاء نحو من طواهم الثرى والأيام. ولذلك من الطبيعي أن تسمع عبارات الدهشة، مثل الطبيب الشاب الذي استلم عيادة أستاذه الراحل، والمتخصّص في طبّ العيون، فقرّر أن يبقى كل شيء فيها كما كان، فلم يدخُل روح العصر بديكوراته الحديثة، ولم يحاول حتى أن يغيّر اللوحة النحاسية التي تحمل اسم الطبيب الراحل على باب العيادة، وأمام مدخل البناية، والتي تآكلت حروفها وبهت لونها، وأن يحتفظ بدفتر تدوين أسماء المرضى المتآكل الحوافّ، وكان عليه أن يسمع كل التعليقات السخيفة من دون تعليق عن أهمية المظاهر في جذب المرضى، والذين باتوا يقصدون العيادات التي تشبه الواحدة منها بهو فندقٍ فخم، بغضّ النظر عن مهارة الطبيب الذي يعمل فيها، وكأن العلاج فيها قد أضحى بابا من التفاخر أيضا في زمن طغت فيه المظاهر والمادّية على كل ما هو أصيل وجميل.

وتلك السيدة البريطانية التي تُدعى مارغريت كولوم، والتي اعتادت أن تقصد محطّة مترو الأنفاق القريبة من بيتها كل يوم فقط، لكي تسمع الأسطوانة التي تنطلق بصوت زوجها الراحل، محذّرا الركاب بتوخّي الحذر عند الخروج من بوابة المترو. ولكن لأن التكنولوجيا طغت على كل شيء، فقد استبدل صوت زوجها المسجّل منذ العام 1950 والمتوفّى في العام 2003 بعبارة يكرّرها روبوت آلي، فتقدّمت الزوجة المحبّة المخلصة، والتي كانت تبحث عن طريقة تشعرها بحضور زوجها إلى جانبها بشكوى لقسم المواصلات في لندن، مطالبة بتسليمها الأسطوانة المسجلة بصوت زوجها. وحين علمت تلك الجهة بقصة وفائها، تم إبقاء أسطوانة بصوت زوجها في المحطّة القريبة من منزلها فقط.

أما أقرب مثال مزدوج للحزن والوفاء، ومن ثم استنكار الأحياء مشاعر الفقد نحو من رحلوا، فمن المؤكّد أن غيرة النساء هي السبب الأول ليس أكثر، فقد كان الرسول محمد يذكر زوجته الأولى خديجة، وروايات غير مؤكّدة أنها كانت تكبُره، وقد مرضت قبل وفاتها، فكان يرعاها ويجلس بين يديها باكيا، وظل يذكرها بعد وفاتها، حتى لحق بها ويكرم صويحباتها، ويظهر لمسات وفائه لها دائما، حتى عابت عليه زوجته عائشة ذلك، وكانت الوحيدة بين نسائه التي تزوّجها بكرا وصغيرة السن، فقالت: ألم يبدلك الله خيرا منها، فردّ عليها بجوابٍ كافٍ موجزٍ وشاملٍ لمواقف خديجة معه، حين كان ضعيفا ومهانا وفقيرا، فكيف ينسى ذلك ويُنكره، وبأن ما يفعله أقل مما يجب نحوها، فكيف ننسى من وقفوا معنا وساندونا وآمنوا بنا وشدّوا على أيدينا، حين أفلتها الجميع الذين لا يجيدون سوى إنكار مشاعرنا، وهم لا يعرفون أن ثمّة حبا حقيقيا وخالدا في قلوب بعض البشر، لا تغيّره السنون.

avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.