وجه جديد لجسد قديم

وجه جديد لجسد قديم

15 أكتوبر 2022

(هيلدا حياري)

+ الخط -

يصلُح عنوان المقالة لأن يكون سياسيا مواربا، لكن ما يحدُث في عالم التجميل يجعله مقصودا بالحرف، فقبل انتشار الفيديو كليب، وتحوّل الأغنية إلى مهرجان استعراضي يعتني بتفاصيل الصورة والمشهد أكثر بكثير من الاعتناء بمقومات الأغنية (صوت وأداء ولحن وكلام)، كانت المطربات يظهرن على المسارح كما هنّ، بأشكالهن الطبيعية، بوجوههن الشابة أو تلك التي ظهرت عليها آثار الزمن، بأجسادِهن النحيلة أو الممتلئة، الطويلة أو القصيرة. الإضافات أو التغييرات كانت في موديلات وماركات الفساتين والشعر والحلي المرافقة، أو في بعض عملياتٍ تجميليةٍ بسيطةٍ كتجميل الأنف مثلا، من دون أن تشكّل الأخطاء الجسدية أية مشكلة أمامهن، ذلك أن الاعتماد الرئيس كان على المحتوى لا على الشكل (ارتدت أم كلثوم، في فترة من حياتها، نظارة سميكة، على المسرح، بسبب مضاعفات الغدّة الدرقية التي تركت أثرها على عينيها). قد يقول قائل: لا نعرف لو أن طب التجميل كان منتشرا تلك الفترة هل كانت مطربات الزمن الجميل سوف يخضعن لها أم لا. ربما هو تساؤلٌ في مكانه، لولا حقيقة أن عيادات التجميل في السبعينيات وبداية الثمانينيات كانت قد بدأت تشتهر في بعض العواصم العربية، كما كانت تلك التي في العواصم الأوروبية تقدّم خدماتها للراغبين.

ثمّة بعض المهن الفنية حاليا تتطلب من أصحابها الكثير من الجمال والرشاقة، كون الجمال هو رأسمالها الرابح. لهذا نجد فنانات عربيات كثيراتٍ (ممثلات ومغنيات) يداومن على عيادات التجميل، ويظهرن عاما وراء عام بملامح أكثر شبابا، وكأن الزمن يسير معهن إلى الوراء لا العكس، ذلك أن طبّ التجميل بدأ يشبه الغول، كلما أطعمته ازداد شراهة، وهو المثال الأوضح في عصرنا الحالي عن الرأسمالية وسوقها وما تنتجه وما تستهلكه من قيم البشر وحياتهم. فمع كل جديد في مجال التجميل تظهر الحاجة إلى اكتشافٍ أكثر حداثةً يلبّي الهوس البشري المتزايد في الحصول على حقنة الشباب أو مشرطه أو جهازه الجديد.

ومن البديهي أنه في عصر الصورة الرقمية حيث لم تعد الموهبة تكفي، أو ربما لم تعد ضرورية، يصبح الجمال والشباب ضرورةً أساسية، يمكن فهم ذلك كله خصوصا في بلادنا حيث الثقافة الجمعية فيها تعتبر المرأة الخمسينية عجوزا عليها الانزواء في منزلها، فكيف بخمسينيةٍ تعمل في مهنةٍ فنيةٍ ما؟ لكن ما يحدث مع فنانات العرب أمر آخر تماما. لم يعد هو الحاجة إلى الاحتفاظ بملامح شابة لزوم المهنة (سيلين ديون أشهر مغنيات الاستعراض في أميركا لم تضع حقنة واحدة في وجهها، تركت وجهها كما هو بكل تجاعيده وتقدّمه في السن). ولم يعد الموضوع تصحيح ما يمكن اعتباره خطأ جماليا خلقيا، بل دخلنا منذ مدة في مرحلة تبديل الملامح لا تصحيحها، ودخلنا في مرحلة النسخة الواحدة، وكأن: كما يقول الجميع: تدخل النساء العربيات العيادة ذاتها ويخرجن منها نسخا متكرّرة عن نموذجٍ ما لدى طبيب التجميل.

ولكن الشكل الذي ظهرت عليه المطربة السورية أصالة نصري أخيرا هو نوع جديد من التجميل، يمكن أن نسمّيه استبدالا لا تجميلا، وجه أصالة الجديد لا يشبهها بأي حال. هو وجه شابة في أول عشرينياتها تحاول أن تبدو جميلة. ما الذي ينقص أصالة نصري وتريد تعويضَه، يا تُرى؟ مطربة ذات صوت استثنائي وشهرة غير مسبوقة مع غنى فاحش مصحوب بجمال ربّاني وملامح تميزها عن كثيرات! من تفعل فعل أصالة في نفسها تعيش فراغا روحيا مهولا، يمنعها من الرضا بما لديها، ما هو الشيء الذي يجعل واحدةً مثل أصالة غير راضية؟ وبماذا تفكّر حين تنظر إلى نفسها في المرآة وهي ترى وجه امراة أخرى، وعروق يديها وعنقها التي رافقت حياة المراة القديمة؟

مؤكّد أن عصرنا هذا بكل التطوّرات التي طرأت عليه أدخلنا جميعا في حالةٍ من اضطراب العلاقة مع الذات، نتيجة السرعة المهولة لمتغيراته، والتي نلهث للحاق بها، ونعجز، في أحيان كثيرة، لكن الآن تحديدا على النخب والعاملين في المجالات الأكثر تأثيرا في مجتمعاتنا التنبيه إلى خطورة هذا التهافت لمواكبة ما بعد الحداثة، ذلك أننا بعيدون جدّا عن الحداثة والتطوّر لأسباب بالغة التعقيد، أولها سياسي اقتصادي، وما نركض خلفه ليس سوى قشور الحداثة التي سوف تسقطنا في فراغٍ سيطلب المزيد، ولن ينتج غير نفسه.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.