وجاء في تونس دور رجال الأعمال

وجاء في تونس دور رجال الأعمال

30 سبتمبر 2023
+ الخط -

بعد تحجيم الأحزاب، وتشديد القبضة على حركتها، وإخضاع القضاء والقضاة، وضرب النقابات الأمنية، وشلّ حركة اتحاد الشغل، والسيطرة على اتحاد الفلاحين، وإرباك منظمّات المجتمع المدني، وخفض مساحة الحرّية الإعلامية والتصدّي لنقابة الصحافيين التونسيين، والتصدّي للضغوط الأميركية والأوروبية إلى جانب رفض ما يسميها إملاءات صندوق النقد الدولي، وحل المجالس البلدية، وإنهاء حالة البيع في الطرقات بطريقة فوضوية، وتقسيم البلد إلى أقاليم خدمة للسلطة المركزية، جاء الآن دور رجال الأعمال، وفي مقدّمتهم أثرياء تونس بعائلاتهم الكبيرة والعريقة، فهل ينجح قيس سعيّد في معركته الجديدة؟

هذه قصة معقّدة ومختلفة عن بقية القصص. ليس الرئيس قيس سعيّد أول من تعرّض لها في خطابه السياسي، فعندما اندلعت الثورة، شكل الرئيس بن علي لجنةً للنظر في ملف الفساد الذي كان من بين الأسباب التي فجّرت غضب الشارع. ووضع لرئاسة هذه الهيئة شخصية قانونية محترفة، عبد الفتاح عمر، إلى جانب عدة أعضاء من بينهم تلميذه قيس سعيّد. رحل بن علي وبقيت اللجنة، بعدما أعدت تقريرا موثقا يتضمّن شهادات مهمة تتعلق بالتجاوزات الخطيرة. ومن هناك، بدأ الحديث عن وضع آليات للمحاسبة.

عندما استقلت تونس، كان عدد العائلات الأرستقراطية محدودا، فعملت الدولة الوطنية على إنشاء طبقة جديدة من المستثمرين الذين اعتمدوا، بشكل واسع، على السلطة التي شجّعتهم، وقدّمت لهم القروض بإجراءات ميسّرة. هكذا تمكّنت عائلات عديدة من أن تصمد وتتمكّن ماليا واقتصاديا، وأصبح لها تأثير واسع في البلاد. وتم اقتسام القطاعات الاقتصادية الحيوية في ما بينها، بشكل أثار تدريجيا تساؤلاتٍ هنا وهناك حول الآليات التي يعتمدها بعضهم من رجال الأعمال لاحتكار جزء مهم من الثروة الوطنية.

بعد الثورة، خاف جزء من رجال الأعمال وفضلوا الانكماش ومتابعة المشهد السياسي عن بعد، لأن جزءا منهم تعاملوا في السابق مع "الطرابلسية" (إخوة زوجة بن علي وأقارب لها)، وشاركوهم في بعض المشاريع، ما جعلهم في وضع المشبوه فيهم. لم يدعموا الانتقال الديمقراطي بحماسة، لكنهم تفاعلوا بحذرٍ مع تغيّر موازين القوى السياسية. لم يطمئنوا إلى حركة النهضة، لكنهم تجنّبوا الاصطدام بها عندما حكمت. وهناك من رجال الأعمال من انخرط في اللعبة السياسية، فساندوا بعض الأطراف على حساب أخرى، ومنهم من استثمر في المشهد الإعلامي، ولعبوا دورا في تلميع بعضهم بعضا وتشويه آخرين. ومنهم من استغل ضعف الدولة، فاشترى وزراء ونوابا لكي يؤثر على القوانين ويتهرّب من الجباية، ويبرم صفقات مشبوهة. لكنهم في العموم تعرّضوا للابتزاز والشيطنة والتوظيف من الجميع.

أذكر أن سفير الاتحاد الأوروبي السابق في تونس دعاني إلى تناول الإفطار في بيته. وفي حديثه، اعتبر أن البلاد التونسية لن تنهض إلا إذا تحرّرت من هيمنة حوالي 40 عائلة تتحكّم في الدورة الاقتصادية، وهي المستفيد الرئيسي من الدعم الذي يقدّمه الاتحاد الأوروبي لبلادكم، فهذه العائلات تعيد إنتاج الوضع الاقتصادي وفق مصالحها وأولوياتها.

تعيش الدولة حاليا تحت ضغط ضائقة مالية خانقة. الرئيس سعيّد مستمرٌّ في رفض التعامل مع صندوق النقد الدولي، وهو ما جعل البلاد تختنق يوما بعد يوم، ما دفعه إلى التدخل بقوة في المجال المالي، ويمارس ضغوطا متزايدة على رجال الأعمال، يتهمهم باحتكار السلع الأساسية، وتكديس الثروات مقابل تفقير التونسيين. لكن أغلب الملفات التي أثارتها الرئاسة ضدهم تنقصها الدقّة، وأحيانا كانت من باب التسرّع والتجنّي.

رغم كل ما سبق، يجب الابتعاد عن حشر الجميع في سلة واحدة. رجال الأعمال ونساؤها أنواع مختلفة، إذ فيهم عدد كبير ممن يعملون في النور، ويلتزمون، إلى حد ما، بتطبيق القانون، فهم يؤمّنون القاعدة الأساسية للاقتصاد الوطني. لهذا ليس من مصلحة أحد إضعافهم وإرباكهم، أو اتهامهم بتهم ينقصها الدليل. كما أن استضعافهم ليس بالتصرّف السليم، فلديهم من الوسائل لحماية أنفسهم من بطش الدولة الكثير. يحتاج هذا الملف إلى الحكمة والمرونة، حتى لا ينقلب على الدولة، ويزيد من إضعافها وإرباكها، إذ في النهاية "ملاك الثروة هم صانعو القرار".

266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس