هل نصغي؟

هل نصغي؟

16 ابريل 2022

(سعد بن شفاج)

+ الخط -

الجميع تقريباً يُحب أن يُصغى إليه، لكن منطق الإصغاء والإنصات يتضاءل على وقع تسارع مفهوم "تلقي الأفكار" لدى الناس، ثم الإفصاح عنها مع بعض التعديلات، أمام أشخاصٍ آخرين، لا يهمّ إن كانوا يصغون أم لا. عملياً، في أيامنا الحالية، يحصل الإصغاء فقط مع الممثلين، فحين تكون في موقع التصوير يصمت الجميع، من مخرجين ومساعدين ومصوّرين وكل الفريق التقني، بل يتسابقون إلى إسكات بعضهم بعضاً، من أجل ضمان نجاح مشهدٍ تصويريٍّ بين ممثلين، خصوصاً بالشقّ الصوتي منه. يفعلون ذلك غالباً، لأنهم يتلقون أجراً، أكثر مما يرغبون في رؤية الممثلين أو الشعور بفن التمثيل. هنا يتحوّل الإصغاء إلى عملٍ مع راتب، بدلاً من كونه قيمة تواصلية بين إنسان وآخر.

في موازاة تسارع الأفكار وتكثيفها بمختلف الطرق، أصبح الإنسان أقلّ قدرةً على الإصغاء، معتقداً أن "التعليم الذاتي"، الذي يحصل عليه عبر الكتب أو وسائل التواصل الاجتماعي أو وسائل الإعلام، يكفي لنبذ مفهوم "الإصغاء" لمصلحة مبدأ "التشبث بفكرة ما" بعناد مبالغ فيه، وصولاً إلى حدّ نشوء الصدام مع آخرين يفكرون بالطريقة نفسها.

في الواقع، أسوأ ما يمكن أن يصيب الإنسان هو الانفصال عن فكرة "الإصغاء" التي توازي، وفق اعتقاده، منطق "الخضوع للآخر" وتُحجّم الأنا الخاصة به. مع العلم أن الإصغاء مختلفٌ عن نهج "إعطاء الأوامر" ومنفصلٌ عن منطق "نفّذ ثم اعترض". الإصغاء هو جوهر الحركة العلمية التي تسَارَع تطورها في القرنين الماضيين مفسحةً المجال أمام إنجازاتٍ لا تُحصى للبشرية، ولا يتمحور حول "إعطاء الأوامر".

أضحى الزمن أسرع من منح "الإصغاء" حيّزاً واسعاً في يومياتنا. لا يُلام كثيرون من البشر هنا، على قاعدة أن الحياة تزداد صعوبةً، وأنه في حال لم نتحرّك كالآلات، فقد يصبح مصيرُنا مثل أي أطلال منسية مركونة في ماضٍ ما. وفي المقابل، لن يؤدّي بنا تجاهل "الإصغاء" حكماً سوى إلى هذه الأطلال. الهامش ضيّق هنا، بين كيفية تلبية متطلبات يومنا والحاجة إلى "الإصغاء" لإنقاذ يومياتنا. الخيارات محدودة: إما الاستمرار بما نفعله ونحن مدركون في أعماقنا أننا لن نصل إلى نهاية مُرضية، أو أن نُحدِث صدمةً مع ذواتنا، بما يسمح لنا بالشعور بأن قيمتنا أكبر من مجرّد كوننا آلات. وبالتالي، يتيح لنا فن "الإصغاء" ممارسة التطوّر عبر تعديل طريقة فهمنا ونظرتنا إلى مختلف القضايا الصغيرة والكبيرة.

دائماً هناك روايتان في كل مسألة بين فردين أو مجتمعين أو بلدين، لا واحدة. وتغييب "الإصغاء" يؤدّي بنا إلى تبنّي رواية واحدة، ستُفضي في لحظة ما إلى هلاكنا. وقد يكون صعباً، في الواقع العملي، أن يعود الإنسان إلى ممارسة فن "الإصغاء"، غير أنه يكفي أن يبدأ في مكان ما. يتوجب عليه ذلك. "الإصغاء" نوع من النجدة النفسية التي تسمح بتغيير أنماطٍ كارثيةٍ في سلوكنا بوصفنا أفرادا ومجتمعات. ويسمح لنا بتنمية طرق تفكيريةٍ جديدةٍ في وعينا، تُكرّس لاحقاً في لاوعينا. من الطبيعي أن علينا اختيار من نرغب في الإصغاء إليهم. والاختيار هنا يمرّ بدرجاتٍ من التجارب. قد نُصغي في البداية إلى استغلاليين، ثم لاحقاً إلى وجهات نظر متعدّدة، وبعدها إلى أشخاصٍ ذوي أفكار متشبثة وغير منطقية، وغيرهم من الفئات التي لن تنقرض بين ليلةٍ وضحاها. هنا، حين نمارس فن الإصغاء، نكتسب الخبرة عبر تمييز كل شيء. وفي كل مرّة نصغي نُصبح أكثر خبرة عن قبل. وهي خبرةٌ ستنفعنا كثيراً في أي تفصيل يومي، وصولاً إلى فرز الفئات التي يجب الإصغاء إليها، لأن هناك من سيصغى إلينا في وقتٍ ما. عبثي التفكير بأن هذا سيؤدّي إلى مجتمع من الحكماء، لكن العبثي أكثر هو الاعتقاد بأن الحياة العاقلة يُمكن أن تستمر من دون إصغاء.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".