هذه الحرب السعودية أيضاً

هذه الحرب السعودية أيضاً

11 مارس 2018
+ الخط -
قنوات مركز تلفزيون الشرق الأوسط (mbc) سعودية الولاء، لكنها لا تتْبع حكومة المملكة، ماليا وإداريا ومؤسساتيا. ومع التسليم بأن كيس العام والخاص السعوديّين غالبا ما يكون واحدا، فإن الفظاظة التي عوملت بها هذه الشبكة التلفزيونية، في إبلاغها أمرا مفاجئا بالتوقف فورا عن بثّ المسلسلات التركية في جميع قنواتها، يلزم أن تكون موضع اعتراضٍ حقوقيٍّ وأخلاقي، فضلا عن أن هذا السلوك يعاكس الحديث الفائض في العربية السعودية عن تحديثٍ وانفتاحٍ، وعن تنشيط روح المبادرة، وغير ذلك مما لا يستقيم مع مباغتة هذه المؤسسة الإعلامية الخاصة بقرارٍ من هذا القبيل، اشتمل أيضا على شطب أي وجود للدراما التركية وحذفِه من الموقع الإلكتروني للشبكة. والمعلوم أن "mbc" هي الرائدة، قبل عشر سنوات، في استيراد المسلسلات التلفزيونية التركية، فكانت وراء المشاهدة الواسعة (الواسعة جدا أحيانا) التي حازتها هذه المسلسلات بين ملايين النظّارة العرب. 

يحدث أن تمتنع دولٌ عن استيراد هذه السلعة أو تلك، لحماية منتوجها من منافسةٍ خاسرةٍ مع هذه السلع، أو لأسباب وحسابات تجارية معينة، غير أن أمر الديوان الملكي السعودي لتلفزيون وليد الإبراهيم جاء على مقادير من العصبية الظاهرة، بالنظر إلى خشونته التي ألزمت التلفزيون المتحدّث عنه بوقف بث مسلسل تركي عند حلقته الثامنة. وأن يُقال إن الأمر سياسي، فإن اللعب السياسي لا يتم بالنكاية، الطفولية غالبا. ويبعث على الاستغراب في محاولة فهم هذا المقطع من العُصاب السعودي، النشط منذ شهور، أن العلاقات بين أنقرة والرياض، وإنْ كانت ليست جيدة، إلا أنها ليست سيئة تماما، فالقيادة التركية تمتنع عن إعلان مواقف وتصريحات مزعجة للمملكة، بل ثمّة مقادير زائدة من الدبلوماسية تتغلف بها تصريحاتٌ رسميةٌ تركيةٌ عن "حكمة" ملك السعودية، وعن مكانة المملكة ووزنها. وفي المقابل، تعتصم الرياض الرسمية، بعيدا عن ثرثرات أبواقها، عن إظهار مواقف حادّة من تركيا. ولمّا فلت من ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، كلامٌ تنقصه الحصافة، أمام جمعٍ من الإعلاميين المصريين في القاهرة قبل أيام، سارعت سفارة المملكة في أنقرة إلى لملمة الأثر السلبي لها، وجاء لافتا أن الحكومة التركية آثرت الصمت بشأن ما سمعت.
ولأن الأمر على هذا النحو، فإن من يُحاول فحص "أبعاد" الحرب السعودية المفاجئة والمرتجلة على الدراما التركية سيُخفق غالبا في الوقوع على مراده. وإذا صحّ أن باعث هذه المرجلة على "العشق الممنوع" و"حريم السلطان"، وغيرهما من نحو مائة عمل درامي تركي بثتها "mbc" في السنوات العشر الماضية، هو أن تركيا تُساند قطر في الأزمة مع السعودية والإمارات، فإن الأمر يصبح كاريكاتوريا، فما هكذا تورَد الإبل أبدا. وإذا كان وزير الثقافة والسياحة التركي، نعمان كورتو مولوش، قد أبدى استياءه من القرار السعودي، فإنه، كما مسؤولون وفنانون أتراك، هوّن من تأثيراته على بلاده التي تُشاهَد مسلسلاتُها التلفزيونية في أكثر من 140 دولة، وخصوصا في آسيا الوسطى وأوروبا (ألمانيا خصوصا)، وعادت عليها بـ 250 مليون دولار في عام 2015. بل إن الخسارة الكبيرة جرّاء الأمر الصادر من الديوان الملكي السعودي ستُحرزها قنوات "mbc"، ما يجيز القول إن عقوبةً أخرى لحقت بوليد الإبراهيم، بعد احتجازه أسابيع في "الريتز كارلتون"، ثم بإلزامه بدفع ما دفع، قبل إطلاق سراحه، بعد أن تم التشهير به "فاسدا". وتفيد التقديرات الأولية بأن 20% من مشاهدي قنوات الشبكة التلفزيونية الشهيرة سيغادرونها، كما أن فقدان الإعلانات التجارية الوفيرة والمربحة في أثناء عروض المسلسلات التركية ليس أمرا هيّن الأثر ماليا.
نجحت فضائياتٌ مصريةٌ في معالجة آثار قرار السلطة في عام 2013، بعيْد الانقلاب العسكري، وقف بث مسلسلاتٍ تركية، فأرشيف الدراما المصرية مهول، غير أنه ليس في وسع المسلسلات المكسيكية والبرازيلية والكولومبية والهندية، بل واللبنانية والخليجية أيضا، التي بدأت قنوات وليد الإبراهيم جدولتها لتعبئة الفراغ التركي أن تُعالج النازلة المستجدّة، فملايين المشاهدين العرب انجذبوا إلى المسلسل التركي، ليس فقط لمقادير التشويق العالية فيه، وللأجواء التي يشيعها، وإنما لأسبابٍ أخرى أيضا، منها النموذج التركي الراهن نفسه.. تُرى، هل من نموذج سعوديّ يُنافس فننحاز إليه؟
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.