من يقرأ نزار قباني؟

من يقرأ نزار قباني؟

30 ابريل 2017
+ الخط -
لم يظفر شاعرٌ، في تاريخ البشرية كله، بما حازه نزار قباني من جماهيريّة مهولة. والمرجّح، إلى حد التأكيد، مثلا، أن حجيج الناس إلى أمسيته في القيروان، في 1995، لم يسبقه ولم يتبعه مثيل. وليست نرجسيةً فيه جعلته يقول، قبل عام من وفاته في 1997، في الحوار الصحافي الأخير معه (أجراه الشاعر نوري الجراح) إنه يشعر بأن قصائده تسافر من الماء إلى الماء، وإن له ركناً في كل بيت عربي من المحيط إلى الخليج. ومعلومٌ ما ظلت تتعرّض له مجموعاته الشعرية وكتبه (الخمسون ربما) من قرصنةٍ وتزوير في الطباعة والنشر، وهي التي كانت تحقّق مبيعاتٍ كبرى، ومعروفٌ أن صحيفة عربية لندنية كانت تنشر له مقالا نصف شهري، بضع سنوات في التسعينيات، كانت تزيد طباعة نسخها يوم المقال. 

لا تُستدعى هذه الحقيقة هنا عن نجومية شاعر المرأة والحب والجمال الأشهر في الأدب العربي، لمناسبة اكتمال 19 عاماً على وفاته اليوم، وإنما للسؤال عمّا إذا كان نزار قباني ما زال مقروءاً بين العرب، الآن، كما كانت مقروئيته تلك؟ هل ما زالت كتبه تباع وتنتشر بالمستوى نفسه؟ هل يعرفه الجيل الشاب الراهن جيداً، وهو الشاعر الذي قال في حواره الأخير "بعد نصف قرنٍ من الكتابة الشعرية، أشعر أن جمهوريتي لا تزال رافعةً أعلامها، وأن جمهوريتي تمتد على مدى ثلاثة أجيال منذ الأربعينيات حتى التسعينيات". لم يفتئت، في عبارته هذه، بشيء، وهو الذي قال، قبل ذلك، "ألقيت القبض على الشعب العربي من المحيط إلى الخليج". وهنا، يصحُّ اجتهادٌ يراه صاحب هذه الكلمات، وهو أن شيئاً من الارتجاج أحدثه نزار قباني في الحياة العربية، منذ "قالت لي السمراء" في 1944، و"طفولة نهد" في 1948، لمّا ألقى حجره الثقيل فيها، بشأن المرأة والحب، ببساطة مفرداتِه، وثوريّتها على المواضعات العامة، وبالسهولة المترفة بالشعرية العالية. ولذلك، "النزارية" حالةٌ ثقافية أكثر منها مجرىً في نهر الشعر العربي، وإنْ سلك شعراء عربٌ كبار، في بواكيرهم، منحىً متأثّراً بنزار، كما محمود درويش الذي لم ير نزار نفسه، لاحقاً، وجهاً غيرَه في الحداثة الشعرية العربية.
هل ما زال نزار قباني على حضوره ذاك في الحياة العربية؟ بصراحة أكثر: من يقرأه الآن؟ أليس دالاً أن ذكرى وفاته السنوية هي المناسبة الوحيدة التي "تطرأ" لاستدعاء اسمه، وكتابة النوستالجيات إيّاها بشأنه؟ لا تطرح أسئلةٌ مثل هذه، هنا، صدوراً عن شعورٍ بأن نزار قيمةٌ شعرية في زمنها فحسب، ولم تعد في وزنها المعلوم في الراهن الذي نعيش. هذا غير صحيح، وكلامٌ غير جائز ربما، فالشعر الكثير في قصائد نزار، بصفائه المعلوم، لم يتكرّر، وعلى فرادته الخاصة إلى حد مثير. ولذلك، لن تنقص جاذبيّته في أي زمنٍ، عدا عن أن راديكالية نزار في هجاء أكثر من سلطةٍ في الحياة العربية قيمةٌ عليا في المتن الشعري العربي المعاصر، لها مطرحها الذي يُحتفظ به له وحده، وقد قال "لا أحبّ الألبسة الجاهزة، ولا القصائد الجاهزة. لذلك، صنعت لكل امرأةٍ ثوباً خاصاً بها، ولكل رجل عبارةً خاصة به".
إجابتي أن نزار قباني لم يعد مقروءاً كما كان، وأن انحسار حضوره في وجدان الأجيال الجديدة من مظاهر تردٍّ مريع في الثقافة الاجتماعية العربية ما يني يتعزّز، وكذا في بؤس الذائقة العامة. وفي زمن الأصوليات والقبليات الحاراتية، والذي يُستهدف في غضونه الجمال والإبداع، وفي زمن ازورارٍ مهولٍ عن الشعر لدى جيلٍ ناشئ، واستباحة الميديا العجولة، يصير طبيعياً أن يُؤخذ نزار قباني إلى الوراء، شعراً وجذريّة وحضوراً، وأن يتبنّى بعضُهم قولة عباس العقاد إنه من جماعة "أدب الفراش"، وأن يستخدم بشار الجعفري اسمه في مجلس الأمن، قبل ثلاثة أعوام، في توظيفٍ سمج، في واقعةٍ غير منسية.
تغيب دواوين نزار الآن عن باعة الكتب في البسطات في غير مدينةٍ عربية، ويغيب صوته، هو الذي أراد حقاً أن ينتقم من "مجتمع يرفض الحب ويطارده بالفؤوس والبنادق"، على ما قال قبل عقود. هو الذي نعى مبكراً "كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة ومفردات العهر والهجاء والشتيمة"، ثم قبل وفاته قال إنه لا يحلم بأن يكون لدينا شعر عظيم "ما دامت حالتنا القومية زفت وقطران"..

دلالات

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.