من شارون إلى عاموس هوكشتاين

من شارون إلى عاموس هوكشتاين

29 أكتوبر 2022
+ الخط -

وقف رئيس الحكومة الإسرائيلية الراحل آرييل شارون، حين كان وزيراً للأمن ويقود عملية "سلامة الجليل" (اجتياح لبنان)، في العام 1982، على إحدى التلال المشرفة على بيروت، مراقباً تقدّم قوات الاحتلال إليها. ستترُك ذاكرة الحرب اللبنانية فصلاً واسعاً لدور شارون فيها، والتغييرات الناجمة عنها، بتفاصيلها الكبيرة والصغيرة. وفي 2022، وجد الإسرائيلي الآخر، عاموس هوكشتاين، مهما كان أميركياً، أقلّه وفقاً لانخراطه في جيش الاحتلال بين عامي 1992 و1995، نفسَه يصول ويجول في المقرّات الرسمية اللبنانية، ويعمل على صياغة نص اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين اللبنانيين والإسرائيليين، ثم يخرج ضاحكاً بعد إتمام مراسم التوقيع.

كان شارون عنصراً حربياً في لبنان الصغير، في صورة أصعب حتى من حرب 1973، ودوره فيها، مرتكباً المجازر التي بدأها منذ كان بعمر الـ18 عاما. أما هوكشتاين فلاقى ترحيباً واسع النطاق، واكتسب أصدقاء لبنانيين، ونجح حيث فشل كثيرون، ومنهم جاك نيريا ومائير داغان وأوري ساغي وأوري لوبراني وغيرهم. صحيحٌ أن مسار شارون كان يهدف إلى التطبيع بالقوة بين بيروت وتل أبيب، وهو ما سقط لاحقاً بعد إسقاط اتفاق مايو/ أيار 1983، وصحيحٌ أن مسار هوكشتاين لن يؤدّي إلى تطبيع باللين بين الطرفين، لكن الصحيح أيضاً أن دوره يتجلّى في أنه لاعب أساسي وصانع مركزي لمرحلة سياسية ـ اقتصادية آتية، ولو أنه مدفوعٌ من الإدارة الأميركية بوصفه مبعوثاً للبيت الأبيض.

وفي حمأة الحقبة العتيدة، سيُقال الكثير عن تمركز الولايات المتحدة في لبنان، لكن قلّة ستتذكّر أن ما فعله هوكشتاين لا يضاهي ما قام به المبعوث الأميركي من أصل لبناني، فيليب حبيب، مرسلاً من الرئيس الأسبق رونالد ريغان، ومتنقلاً بين بيروت وتل أبيب، عبر الخروج باتفاق يقضي بانسحاب المقاتلين الفلسطينيين من لبنان في سبتمبر/ أيلول 1982.

في تسلسل الأحداث منذ الإعلان عن "اتفاق الإطار" في خريف 2020، سبق هوكشتاين جميع القادة اللبنانيين. لم يكن واحد منهم في موقع الفاعل، بل ركنوا إلى "ردّ الفعل". وستبقى ضحكته حول "حاجة لبنان إلى اتفاق بسبب أزمته الاقتصادية" خالدة. لم يكن تصرّف هوكشتاين غريباً بالمطلق، فقد فهم أن قادة لبنان لا يملكون ميزة التصرّف كفريق، سوى حين يكونون في "خطر جماعي" أمام انتفاضة شعبية ما، حينها يتّحدون لإعادة إنتاج التفرقة بين المواطنين. سلوك هؤلاء وأسلافهم، وخلفائهم، في حال ظلّت الذهنية على ما هي عليه، يندرج في سياق "العقل العصاباتي"، وهو بطبيعة الحال نقيضٌ لمفهوم "الدولة" ضمن مبادئ ديمقراطية. وفي العامين الماضيين، تصرّف هوكشتاين على أساس انتظار اللحظة الملائمة، لأن اللبنانيين سيأتون في نهاية المطاف، وإنْ لم يكن بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا فلألف سببٍ آخر.

تصرّف هوكشتاين كرجال جدعون في التوراة. ففي الفصل السابع من سفر القضاة مكتوب أن جدعون كان معه أكثر من 30 ألف جندي لمحاربة المديانيين (ذرّية تنتمي إلى مديان وكانت تنتشر في أجزاء من الأردن وشبه جزيرة سيناء المصرية). أُبعد آلاف الجنود بسبب الخوف، ثم وفقاً لسفر القضاة: "قال الرب لجدعون: لم يزل الشعب كثيراً. انزل بهم إلى الماء فأنقيهم لك هناك". وجاء في السفر نفسه: "قال الرب لجدعون: كل من يلغ بلسانه من الماء كما يلغ الكلب فأوقفه وحده. وكذا كل من جثا على ركبتيه للشرب. وكان عدد الذين ولغوا بيدهم إلى فمهم 300 رجل. وأما باقي الشعب جميعاً فجثوا على ركبهم لشرب الماء. فقال الرب لجدعون: بالـ300 رجل الذين ولغوا أخلصكم وأدفع المديانيين إلى يدك". كان الـ300 يقظين وانتصروا على آلاف الجنود، وفقاً لمغزى هذه السيرة. تماماً كما فعل هوكشتاين في لبنان، كأي "مستشرق" يلج ثنايا بلد ما. 40 عاماً، تبدّلت أساليب التفكير الإسرائيلي بما وصفوه مراراً بـ"المستنقع اللبناني"، فيما راوح اللبنانيون مكانهم. هنا كل الفرق بين شارون وهوكشتاين.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".