من أين يستمدُّ نتنياهو قوَّته؟

من أين يستمدُّ نتنياهو قوَّته؟

29 يناير 2023
+ الخط -

تُلقي عملية القدس التي نفَّذها الشاب خيري علقم، وأودت بحياة سبعة مستوطنين، وأصيب فيها عشرة آخرون، قبل استشهاد المنفِّذ، وبعدها عملية بلدة سلوان، جنوب القدس، ومنفِّذها فتى يبلغ عمره 13 عامًا، بتأثيرهما على مصير حكومة بنيامين نتنياهو، وهما العمليتان اللتان جاءتا إثْرَ مجزرة جنين التي أودت بحياة تسعة فلسطينيين.

وغالبًا، كان نتنياهو يعوّل على ذلك التصعيد في دماء الفلسطينيين في تبديد حشود المحتجّين، الذين خرجوا، في تل أبيب وغيرها، رفضًا لمساعيه تقليص صلاحيات محكمة العدل العليا؛ بما يناسب مآربه السياسية، وبما يغطّي على تُهَمِه التي لا تزال تهدِّد مصيره السياسي.

وقد يتبادر إلى الذهن، أول ما يتبادَر، عند البحث عن سرّ قوة رئيس حكومة الاحتلال، وزعيم حزب الليكود؛ نتنياهو، أنه يكمن في شعبيته الانتخابية، وقدرته على الحفاظ على تماسُك حزبه، وقواعده. والانتخابات الأخيرة، مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الفائت، أوضح مؤشِّر، إذ حصل الليكود على 31 مقعدًا، في تفوُّق واضح على أحزاب معسكر التغيير بزعامة يائير لبيد، الذي حصل على 24 مقعدًا، من أصل 120 مقعدًا هي عدد أعضاء الكنسيت؛ لتمكِّن تلك النتائج التي أحرز فيها اليمين وأقصى اليمين 65 مقعدًا، نتنياهو من استعادة زعامة اليمين، فنجاح نتنياهو في اجتذاب قوى اليمين حول قيادته؛ من يمين ديني، ويمين قومي، يمكّنه من تظهير نفسه قائدًا لليمين، وحاميًا لمعسكره، وعرَّابًا لمشروعه الاستيطاني التهويدي.

ظلت هذه المزيَّة قادرة على التغطية على مناطق عواره، الكامنة في صلب مؤهِّلاته لمنصب رئيس الحكومة؛ إذ ظلّ تملُّصه من الضغوط الدولية، والأميركية، تحديدًا، نقطة جذب، وإعجاب، عند قوى اليمين، (تستبطن، دومًا، خطرًا، وجوديًّا)، وتستثمره؛ كونه أبعْدَ ما يكون عن وصف التابع للسياسة الأميركية، أو حتى القابل لتلبية متطلباتها، التي لا تمسّ بأمن إسرائيل، ولا بتفوُّقها النوعي.

نجاح نتنياهو في اجتذاب قوى اليمين حول قيادته؛ من يمين ديني، ويمين قومي، يمكّنه من تظهير نفسه قائدًا لليمين، وحاميًا لمعسكره، وعرَّابًا لمشروعه الاستيطاني التهويدي

لا يتربَّع نتنياهو في قلوب الإسرائيليين قائدًا عسكريًّا، ولا يُعرَف عنه أنه مُولَع بالحروب، أو حتى مندفع نحو المواجهات العسكرية. ولكنه يحصد تنامي قوى اليمين، وأقصى اليمين المتطرِّف، في الدولة والمجتمع، والحياة السياسية والاجتماعية؛ في تجاوب مع فكرٍ راسخ عن ضعف الإيمان بالحلول السياسية، مع الفلسطينيين والعرب، إلا أنْ تكون إملاءات إسرائيلية احتلالية، فحتى هذه اللحظة لا تزال هذه الاعتبارات تشفع له أمام تُهَمَه الخطيرة؛ في خيانة الأمانة والفساد، وهي عيوبٌ تقدح في صلاحيته لأداء منصب عام، له تأثيره، في مجمل الحياة السياسية، حتى وصلت طموحاتُه الشخصية، واستماتته في النجاة من الإدانة القضائية، (وتاليًا إقصاؤه عن رئاسة الحكومة، وربما عن الحياة السياسية)، إلى السلطة القضائية، ومحاولته تقليص صلاحيات المحكمة العليا؛ ليضع، (كما تقول حشود المحتجِّين، منذ ما يزيد عن ثلاثة أسابيع) "مستقبل الديمقراطية الإسرائيلية على المحكّ".

ولكن هنا، والآن، لا يضمن نتنياهو تمتُّعه بحصانةٍ دائمةٍ، ومطلقة، ولا سيما وهو يحاول إحداث تغيير يمسُّ بنية الدولة، وصلاحيات السلطة القضائية فيها؛ فهو يلقى مقاومة متيِّقظة؛ تتمثل في هذه التظاهرات الحاشدة، التي من المناسب الإشارة إليها بوصفها يقوم أكثرها، وصُلْبها على قوى اليسار التي لم تحتشد، كما ذهب بعضهم، هذا الاحتشاد، أو تتحرَّك قريبًا من هذا التحرُّك، وهي ترى الإتيان التام على حقوق الفلسطينيين، وذبْحَ ما تسمَّى عملية السلام. ولم تقتصر ردود الأفعال ضد مساعي نتنياهو على التظاهرات؛ فانضاف إليها المستشارة القضائية للحكومة، غالي بهاراف ميارا التي لوّحت بإمكانية إلزامه بالتنحِّي؛ بسبب "تناقض مصالح بين السياسة التي يتبعها، وأحكام القضاء، من خلال الإعلان عن التعذُّر عليه القيام بمهامه".

لا يضمن نتنياهو تمتُّعه بحصانةٍ دائمةٍ، ومطلقة، ولا سيما وهو يحاول إحداث تغيير يمسُّ بنية الدولة، وصلاحيات السلطة القضائية فيها

ولا يمكن عزل شواغل نتنياهو الذاتية عن التحوُّلات التي تمرُّ بها دولة الاحتلال، من انعطافات واضحة نحو اليمين، وتراجُع كبير لقوى اليسار، ما قد يعني تعرّض الأسس التي تشكّلت عليها الدولة إلى ضغوط فكرية مغايرة لتلك الليبرالية، داخليًّا، والمبقية نطاقًا محفوظًا للسلطة القضائية أمام السلطة التنفيذية. وهذا ما يحمل نُخَبًا يُعتَدّ به على التحذير من خطر حقيقي للانقسام، أو حتى لحربٍ أهلية.

وفي حمأة هذا التطرّف اليميني الذي بدأ منذ فترة يتعمَّق في مؤسّسات دولة الاحتلال والجيش والمجتمع، يجري التهوين من العامل الخارجي، وانعكاسات هذه التغيرات البنيوية على صورة إسرائيل، كما طالما روَّجت نفسها بأنها الدولة الديمقراطية، وسط دول دكتاتورية، بعيدة عن القيم الغربية المشتركة. مع أن الاستمرار في هذا الاتجاه يزيد من حرج الدول الداعمة لإسرائيل، لا سيما في المحافل الدولية، ومن شأنه تغذية حملات المقاطعة العالمية ضدها. وقد قال السفير الأميركي لدى إسرائيل، توم نايدس، إن المسؤولين الأميركيين سيواصلون التحدّث مع نظرائهم الإسرائيليين حول القيم المشتركة، وأهمية المؤسسات الديمقراطية القوية. الديمقراطية الإسرائيلية القوية "تمنحنا القدرة على الدفاع عن إسرائيل في الأمم المتحدة"، مشيرًا إلى ادِّعاء منتقدي الحكومة بأن "استهداف نظام المحاكم سيعيق قدرة القدس على الدفاع عن نفسها ضد المحاكم الدولية، والتي تُستخدم عمومًا فقط في الأماكن حيث لا يوجد قضاء مستقل".

ويوفّر هذا السياق اليميني المتطرّف لوزير الأمن القومي، وزعيم حزب العظمة اليهودية فرصةً لصعود نجمه، ليستمرّ في مداعبة أحلام قواعده الشعبية، وليأخذ زمام المبادرة نحو إنضاج تلك التوجهات وتثميرها، كما يُظهِر توّعده بــ "حارس الأسوار 2"، وتلويحه بفصل جديد من عدوان "حارس الأسوار" الذي حصل عام 2021، وتخلله تصعيد على جانبي الخط الأخضر، ضد فلسطينيي الداخل، بالذات في المدن الساحلية والنقب، وكان بن غفير نفسُه من أبرز وجوهه المحرّضة. وهو الذي يطمح من خلال إقامة "الحرس القومي" المبني على عشرة آلاف من المتطوِّعين؛ ممن خدموا في قوات الأمن، ضمن المهام القتالية، ليس إلى تعزيز مركزه الشخصي والحزبي، وزعامته، فقط، بمثل هذا الذراع المليشياوي الرسمي، بل أيضًا إلى تثبيت تلك التحوُّلات اليمينية المتطرِّفة، في كيان دولته، وهنا في الجانب الأمني، المفضية إلى الإجهاز على الوجود العربي الفلسطيني، وبوتيرةٍ أسرع، لتكون أداة موازية، يكون بمقدورها المضيَّ في الإرهاب والترهيب، أبعد مما تستطيعه الأجهزة الأمنية الأخرى.

لا يمكن عزل شواغل نتنياهو الذاتية عن التحوُّلات التي تمرُّ بها دولة الاحتلال، من انعطافات واضحة نحو اليمين

هذا، بالرغم من محاولات نتنياهو التوسُّط بين تلك القوى؛ حتى بلغ ببعضهم أن يصفه بعامل اعتدال، وسط قوى أكثر يمينية، على الصعيد الداخلي، وعلى صعيد العلاقة مع الفلسطينيين، (ومع العالم بما فيه أميركا) لجهة مزيد من الأُحادية السافرة في الصراع، والتمادي في طمس الوجود الفلسطيني، وفرْض الأجندات الصهيونية الاستيطانية والتهويدية، كما يتجلّى في الانتهاكات المكثَّفة والمتسارعة في القدس والمسجد الأقصى، والخطوات الجادَّة نحو تجاهُل الخطوط الحُمْر؛ في الحفاظ على الوضع القائم في الأقصى، وكان باكورة تأثير المتطرّف بن غفير انتهاكه المسجد الأقصى، بعد أيام من تولِّيه مهام وزارته، ثم تلا ذلك منْعُ السفير الأردني من زيارة المسجد الأقصى، وعلى مرأى من وسائل الإعلام، في خرقٍ ملموسٍ للوصاية الهاشمية عليه، كما ظهر في رفع علم دولة الاحتلال في ساحات المسجد، في إشارة واضحة إلى إظهار سيادتهم عليه.

وبعد، لا يخفى أن دولة الاحتلال تمر في منعطف بالغ الأهمية، على الصعيد الداخلي، ثم الخارجي؛ هل تمضي نحو مزيد من الحمولات الدينية، غير الخالية من نغمات الانكفاء والصَّلَف؛ مع ما يعنيه ذلك من إرباكات عميقة لبنية المجتمع والدولة، ومع ما يعنيه ذلك من خسارات على الصعيد الخارجي؛ إن لم تُتَوَّج في مواقف سلبية؛ من دول حليفة وصديقة، فمِن المؤكَّد أنها ستجعل مهمة دفاع تلك الدول عنها أكثر صعوبة، فضلًا عن إكساب حركات المقاطعة مزيدًا من الحُجَج، والزَّخَم.