منصف المرزوقي يعيد النظر في أيديولوجيات كبرى

منصف المرزوقي يعيد النظر في أيديولوجيات كبرى

06 ابريل 2023
+ الخط -

نفتقر في بلادنا العربية إلى ثقافة المراجعة الفكرية والسياسية وتقاليدها، إذ نادراً ما تقوم شخصية سياسية، تولت منصباً سياسياً رفيعاً في إحدى دولنا العربية خلال فترة ما، بمراجعة دورها الذي قامت به، والأفكار التي آمنت بها، وتقديم نقدٍ ذاتي لعملها السياسي. ولا يدخل كتاب الرئيس التونسي الأسبق منصف المرزوقي، "المراجعات والبدائل: أي أسس لفكر سياسي مجدّد؟"، الصادر حديثاً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن ثقافة المراجعة السياسية المتعارف عليها، بمعنى أنه لا يقدّم جردة حساب للمهمّة التي أنيط بها خلال فترة رئاسته تونس ما بين 2011 و2014، ولحيثيات اعتزاله الحياة السياسية، بما يسمح بتقويم المسار الذي اتّبعه، والسياسات التي طبقها، ويضع تجربته على طريق أكثر ملاءمة، وأكثر أمناً وسلامة. لكنه، في المقابل، يقدّم مراجعات فكرية، تعبّر عن خلاصة قناعاتٍ توصل إليها، تخصّ قضايا فكرية وسياسية أساسية، تطاول الإيديولوجيات الكبرى، كـ"الوطنية/ القومية، والتقدّمية، والليبرالية، وحقوق الإنسان/ الديمقراطية، والإسلام السياسي"، التي تعلق بها، أو بالأحرى التي آمن بها، هو ومثقفون وناشطون سياسيون من أبناء جيله، وراهنوا على وعودها بالخلاص، والتحرّر، والتقدّم، وبناء مستقبل أفضل. واتّضح له أن كل تلك الإيديولوجيات بحاجة إلى إعادة نظر في المفاهيم الكبرى، والفرضيات، التي بنت عليها رؤيتها إلى الواقع.

تكتسي مراجعات المرزوقي أهميتها في أن مفهوم المراجعة لا يرتبط بالفكر السياسي فقط، وبتناول إيديولوجياته، بقدر ما يرتبط بحياة الإنسان، وحياة المجتمعات، على مختلف المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، على اعتبار أن المراجعة تتجسّد في تكثيف ممارسة الوعي في إدارة شؤونه وأزماته وأسئلته الشائكة، وفي عملية نقد واع، وإعادة بناء مدروسة. لذلك تبدو منصفة دعوته إلى النظر بعين موضوعية إلى الإيديولوجيا، والتخلّي عن كل نقد لها من وجهة نظر الإيديولوجيا المنافسة، وعدم التحايل على القراءة الموضوعية عبر الانطلاق من أحكامٍ مسبقةٍ لإيديولوجيا تشكّلت في عقل الدارس بوصفها المقياس الصالح لكل الإيديولوجيات. وبالتالي، ينبغي فحص الإيديولوجيات باعتبارها البعد الفكري والشعوري، المؤسّس لتجارب سياسية، تسعى إلى إعادة صياغة مجتمعاتٍ بأكملها، الأمر الذي يفترض بالتقييم الموضوعي ضرورة الفصل بين مستويين راسخين في كل إيديولوجيا، أولهما تجسيده رؤية واضحة، أو ضمنية، للإنسان وموقعه في العالم، وثانيهما يكمن في الممارسة السياسية المسخرة في خدمة هذه الرؤية.

يعتبر المرزوقي أن منظومة القيم الأخلاقية يمكنها تحقيق مصلحة الفرد من دون إلحاق الضرر بمصالح الجماعة البشرية

يطاول الأمر التحدّيات المصيرية التي تواجه الإنسان في عالمنا المعاصر، المتمثلة بالأمن والسلام والمناخ والأوبئة، فضلاً عن التحدّي التقني والتكنولوجي. وهو ما يتطلب الافتراق عن الجدل الإيديولوجي بشأن الأطروحات التي تمسّ السياسة والاقتصاد والثقافة، وذلك بغية تقديم إجابات موضوعية على هذه التحدّيات، وفق منهجية واضحة وسلسة، تُمكّن الإنسان من إدراك حدود التصوّرات المطروحة، واستخلاص ما يلزم من أجل وضع مشروع إنساني تحرّري، يعيد تعريف السياسة بوصفها سعيا دائما من أجل الوصول إلى حياة أفضل لبني البشر.

تنحو المراجعات باتجاه مناقشة (ونقد) الفرضيات التي وضعتها الإيديولوجيات، فالوطنية والقومية نهضتا على خيار رصّ صفوف الشعب، والاحتماء في دولةٍ مستعدّة للحرب، بغية العيش بسلام وأمان، ووقايته، أي الشعب، مما يتهدّده من عنف الآخرين وعدوانيتهم، بينما أظهرت التجارب التاريخية بطلان هذا الافتراض، وأنه كان، وما زال، سبب كل فظاعات الحروب، وأن "الدولة الوطنية بحاجةٍ إلى الحرب حاجتها إلى السلام"، كي تفرض وجودها. كما أن الليبرالية التي اعتبرت أن الحرية قيمة القيم، وأن انتصارها سيُفضي إلى تحرّر الإنسان من القيود التي قيّد بها نفسه، أثبتت التجارب التاريخية أن "شكلها الاقتصادي المسمّى رأسمالية، يشكّل أكبر خطر يهدّد الطبيعة، ومن ثم أكبر خطر يهدّد الإنسان نفسه". ينسحب الأمر نفسه على الديمقراطية التي افترضت أن القيم والقواعد التي سنّتها لتسيير الشعوب كفيلةٌ بإيجاد أحسن أنظمة حكم، وقادرة على تحقيق ما يصبو إليه الإنسان من سلامٍ وحريةٍ ومساواة وعدل، لكن التجارب التاريخية أظهرت أن الديمقراطية تجاهلت "تقدير ما في الطبع البشري من شرّ وغباء وتهوّر، فأنتجت المموّل المفسد، والسياسي الفاسد، والإعلامي المرتزق، والناخب الجاهل، أو المضلَّل"، ما يجعلها تحت التهديد المباشر. أما التقدّمية، فافترضت أنه بناء على رؤية للتاريخ كقاطرة تحمل الإنسانية نحو الأحسن، فإن التقدّم الحاصل "يعود إلى تحرّر السياسة من الدين وتحرّر العلم من الأساطير، والتطور المطرد للتكنولوجيا".

لعلّ الموقف الأخلاقي الذي يتبنّاه المرزوقي جعله يرى المشكلة في أدوار الفاعلين الاجتماعيين

غير أن توسّع المراجعات يطاول افتراضات الأيديولوجيا الدينية التي استدعت مقدّسا متخيّلا، من أجل تقويم اعوجاج البشر، بالاعتماد على الخوف من غضبه والطمع في نيل رضاه، لكنها لم تتمكّن من تطويع الإنسان. وعليه، يعتبر المرزوقي أن منظومة القيم الأخلاقية يمكنها تحقيق مصلحة الفرد من دون إلحاق الضرر بمصالح الجماعة البشرية، ويمكنها أيضاً الوقوف بوجه العنف والاضطهاد والاستغلال في المجتمعات البشرية.

ولعل الموقف الأخلاقي الذي يتبنّاه منصف المرزوقي جعله يرى المشكلة في أدوار الفاعلين الاجتماعيين، الذين ينقسمون إلى قسمين رئيسيين، أولهما يخوض غمار السياسة بوصفها معركة تحقّق له المكاسب والمغانم، وقسم ثان تشكّله جماعة مستكينة، يسكنها الخوف، وترتضي لنفسها المهانة. ومن خارج هذه القسمة، يظهر البطل المخلّص، كي يدافع عن المظلومين وينتصر للحقّ بوجه قوى الهيمنة والاستعباد.

والحاصل أن المراجعات في سياقاتها النقدية تساهم في تطوير المجتمعات الديمقراطية، وفي الدفع بحركة الإبداع، وردم الهوة القائمة في بلداننا العربية بين الحاكم والمحكوم، أو بالأحرى بين المسؤول والمواطن، خصوصا إذا تمكّنت من فتح عملية جدل ونقاش منهجيين وعلميين بين الأفكار، قديمها وجديدها، وفق رؤية نقدية وتأملية، حيث تغدو المراجعات مفهوماً تقويمياً، لمواجهة كل الإشكالات والأزمات الوطنية والسياسية والاجتماعية، وعبرها يمكن الارتقاء بواقع المجتمعات على مختلف المستويات الفكرية والسياسية والاجتماعية، نظراً إلى ما تقدّمه من قدراتٍ على التجديد الدائم للممارسات السياسية والديمقراطية وللمؤسسات المجتمعية أيضاً.

5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".