ملاحظات في الفهم العلماني

ملاحظات في الفهم العلماني

19 فبراير 2022

(أمين الباشا)

+ الخط -

كانت دعوة الحركات الأصولية في المسيحية بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر نوعا من العلمنة، لأنها تريد عودة الدين إلى مجاله الطبيعي في رد فعل على تدخل الكنيسة في الدولة، على الأقل من منظور الأصوليين المسيحيين الذين طالبوا وعملوا على إعادة نقاوة المسيحية وتطهيرها.

في المقابل، ليست الأصولية الإسلامية علمنةً كحال الحركات الأصولية المسيحية، لأن العودة إلى أصول الدين الإسلامي تعني، في وعي حامليها، إعادة توحيد السياسي بالديني، في ردٍّ على الفصل الحاصل بين السياسي والديني، أو على الأقل نتيجية هيمنة السياسي على الديني.

القول إن الإسلام لم يعرف مؤسسة دينية كهنوتية كالكنيسة في أوروبا، مبرّرا للقول إن العلمانية مسألة غربية جاءت لتقديم إجاباتٍ عن أسئلة تنتمي لفضاء سياسي ديني ثقافي أوروبي، وبالتالي لا داعي لها عربيا، مزيف، فالعلاقة بين الديني والسياسي لا يمكن اختزالها بالعلاقة بين مؤسستين، إحداهما دينية والأخرى سياسية، إنها تختلف تبعا إلى اختلاف التجارب التاريخية والحضارية والثقافية بين الدول والمجتمعات.

العلمانية نظام عمل سياسي هدفه جعل الدولة محايدة دينيا من دون أن تكون محايدة أخلاقيا

في لحظة تاريخية معينة نهاية العصور الوسطى الأوروبية، لجأت الإمبراطورية في سعيها إلى توطيد سلطتها أمام الكنيسة إلى استخدام مقولات دينية. وفي المقابل، في محاولتها فرض هيمنتها السياسية، استخدمت الكنيسة مقولات دنيوية لتحقيق ذلك. هنا ظهر التداخل الواضح بين الديني والسياسي، فأخذت الدولة بعدا دينيا فيما أخذت الكنيسة بعدا دنيويا على مستوى التأطير الأيديولوجي.

لا يختلف الأمر كثيرا في عالمنا العربي، ولا يتطلب الأمر وجود مؤسسةٍ دينيةٍ تراتبيةٍ وقوية، فعلى سبيل المثال، تقدّم الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي المعاصر سرديةً دينيةً مفادها بأن الفتنة أعظم الشرور على الأمة، وأن الاستبداد يظل أفضل بكثير من الفتنة، وهو رأي يستند إلى تقليد ديني عريق، هنا تستخدم مقولات الدين لتبرير الواقع الاستبدادي.

في الوضع العربي المعاصر، جرى دمج تعسّفي بين الديني والسياسي في الدولة، وهو ما أنتج إسلاما أصوليا على الصعيد المجتمعي، وسياسية دينية للدولة فرضت بالقوة خطابا دينيا يتماهى مع خطابها السياسي.

من هنا، الفصل بين الدولة الدين ضرورة تاريخية: لا تعود الدولة، بموجب هذا الفصل، قادرة على تسييس الدين واستخدامه لأغراضها السلطوية، ولا تعود الحركات الدينية تطمح إلى السيطرة على الدولة من أجل فرض هيمنتها.

ليست العلمانية مضادة للدّين ولا مؤيدة له، إنها باختصار، نظام عمل سياسي هدفه جعل الدولة محايدة دينيا من دون أن تكون محايدة أخلاقيا، وليس بالضرورة أن تقود العلمانية إلى قسر الدين عن المجال العام، فهذه نشأت في تجربةٍ أخرى وسياق تاريخي آخر مختلف تماما. ولم يعد بالإمكان الحديث عن قسر الدين عن المجتمع والمجال العام، فقيم الحداثة الأوروبية والعلمانية التي هيمنت خلال القرنين الماضيين لم تعد مقبولة في الغرب الأوروبي والأميركي نفسه.

تمنع العلمانية تطييف السياسي وتمنع تسييس الطائفة، وتقدّم رؤية ومنهجا مستقبليا لخلع أدوات الصراع الديني والطائفي داخل المجتمع

تكمن أهمية العلمانية في أنها تمنع تطييف السياسي وتمنع تسييس الطائفة، وتقدّم رؤية ومنهجا مستقبليا لخلع أدوات الصراع الديني والطائفي داخل المجتمع، وهي وإن تفعل ذلك على مستوى الوعي والممارسة، فإنها تقوم بتنقية الدين من شوائبه، وتجعله أكثر قوةً على الصعيد الوجداني، بما يجعل من انعكاساته على المجتمع محصورة بسلوك أخلاقي طهوري مغلف برؤية دينية. وقد لعب مفكرّون عرب علمانيون كثيرون دورا سيئا على الصعيد المعرفي، حين اعتبر بعضهم العلمانية نظرية إبستيمولوجية، بما يتطلبه ذلك من موقفٍ حدّي حازم بين الدين والمعرفة العقلية، واعتبر بعضهم الآخر أن العلمانية تهدف إلى القضاء على الدين في المجتمع.

الإشكالية العربية بشأن العلمانية تكمن في تقديم مقاربات علمانية أو مقاربات مضادّة لها من اعتبارات ذاتية وليست موضوعية:

ـ معظم المفكرين العلمانيين العرب انطلقوا في قراءتهم للعلمانية من قناعات ذاتية، أو بتأثير تجارب معينة، فمنهم من جعل العلمانية نقيضا للدين، ومنهم من وضع التجربة العلمانية الفرنسية مثالا له.

ـ رجال دين يرفضون العلمانية بالمطلق، حيث لا يزالون ينطلقون من مخيال ديني اجتماعي سياسي لم يعد موجودا، الأمر الذي يترتّب عليه التعامل مع أدوات الحداثة السياسية (الدولة، الديمقراطية، العلمانية، المجتمع المدني .. إلخ) كتعامل إجرائي ليس إلا.

ـ إصرار الأقليات على الفصل بين الدين والدولة ليس نابعا من موقف علماني وسياسي مرجوّ لما يجب أن تكون عليه الدولة والمجتمع، بل موقفهم هذا نابع من اعتبارات أقلوية.

ـ الدولة العربية تفضل بقاء الدين بين كنفها، فهي لا تعمل على فصل نفسها على الدين، خوفا من انفلات الأخير. ولذلك، ترفض هذه الدولة الخطاب الديني الذي يريد الهيمنة على السياسي، وترفض في المقابل الخطاب العلماني الذي يدعو إلى الفصل التام.