مصر التي جعلوا صالات المغادرة أجمل أماكنها

مصر التي جعلوا صالات المغادرة أجمل أماكنها

07 مارس 2023

(جاذبية سري)

+ الخط -

كان قادة العالم كله، قبل 12 عاماً، يفخرون بشباب مصر والثورة التي أنجزوها، خطوة أولى على طريق القضاء على الديكتاتورية وبداية لتغيير جذري في بلدهم وفي المنطقة، وعلى أقل تقدير إصلاحات هيكلية في كل شيء. وعلى إثر انتفاضة يناير، عاد مئات من الأكاديميين والعلماء المصريين في الخارج أملا في المساهمة في بناء أوطانهم، رغم ما تركوه من مزايا خلفهم في بلدان المهاجر شرقاً وغرباً، عادوا قاصدين بلدهم الذي شعروا أول مرة أنهم يمتلكونه وأنه لهم ولأبنائهم.
تبدّل الوضع خلال عقد تماماً، وأصبح أحد أشهر المضحكات المبكيات في المحروسة منشور متداول على مواقع التواصل الاجتماعي، يشير فيه صاحبه إلى "أجمل وأحلى مكان في مصر"، حيث صورة من صالة المغادرة في مطار القاهرة. ليضاف إلى مئات المنشورات عبر هذه السنوات العجاف من هذه النوعية التي تتمنّى خروجاً من هذه البلاد إلى أي مكان.
هكذا تبدلت الأوضاع بسبب سياسات لا دخل للغالبية الساحقة من المصريين فيها، بل، على العكس، هم ضحايا لتلك السياسات، بل الأكثر إيلاماً ودراميةً أن هذه الحكومات تُلصق كلّ نقيصة بالشعب، فالمصريون بالنسبة لها لا يعملون، وهم شديدو الكسل والخمول. وللمفارقة، تذكر بيانات منظمة العمل الدولية أن المصريين من أكثر الشعوب التي تتحمّل ساعات عمل أطول، وبأقل أجور متاحة عالميا، في وضع أشبه بالعبودية، لكن هذه الحكومات لا تقرأ تقارير أجهزة معلوماتها هي، ناهيك عن أن تقرأ تقارير المؤسّسات الدولية عن مصر والمصريين.

يعمل المزارعون المصريون بمنتهى الجدّية من دون توقف على مدار حياتهم في انتظار مقابل حقيقي في أراضيهم، على الرغم من أن غالبية السياسات ضدهم

وما من حكومةٍ إلا وتكرّر، كما كل مؤتمر اقتصادي، ادّعاء أن المصريين لا يعملون بجد. ودوماً يطالب الرئيس المصريين بمزيد من العمل، وكأنهم لا يعملون، حتى أصبح هذا الادّعاء متلازمة حكومية وشعبية واسعة الانتشار، وكأنها مسلّمة. وهو ادّعاء غير صحيح بتقارير الأجهزة الحكومية نفسها، فقد ذكر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في العام 2014 أن متوسط ساعات العمل الأسبوعية في مصر 56 ساعة، وهو بهذا يقع ضمن الأعلى عالميا، بل يكاد يصل إلى ضعف المعدّل في بعض البلدان التي يطالب مواطنوها، على الرغم من ذلك، باعتماد أربعة أيام عمل أسبوعيا فقط.
وعند مواجهة الحكومة والرئاسة وإعلامهما الرديف بهذه الحقائق، سوف تسارعان إلى الرد بأنهم يتحدّثون عن الإنتاجية. والحقيقة أن في هذا الأمر تدليسا آخر، فلا يوجد أحد يعمل كل هذه الساعات بمثل هذه الأجور المتدنّية في مصر، والتي لم تعد كافية لأي احتياجات أساسية، ولا تحفّز إلا على البطالة والهجرة. ومع ذلك، يدور المصريون في طواحين الحياة كما لو كانت طواحين هواء، لتلبية احتياجاتهم الأساسية، فيصطدمون بمعدّلات تضخّم تأكل كل مدّخراتهم، وتجعل دخولهم وأعمالهم غير كافية، ما ينعكس على حالتهم النفسية التي تزداد سوءا يوما بعد يوم، إلى الحدّ الذي وصل إلى التصريح حكوميا بأن ربع المصريين على الأقل يعانون من أمراض نفسية، وتتزايد حالات الانتحار وتصل نسب الإدمان إلى 10%. 
يعمل المزارعون المصريون بمنتهى الجدّية من دون توقف على مدار حياتهم في انتظار مقابل حقيقي في أراضيهم، على الرغم من أن غالبية السياسات ضدهم، سواء بالقيود على زراعة بعض الأنواع، تأقلما مع سد النهضة، أو بالتخلي السريع عن الدعم من دون ترتيب الأمور معهم. مع ذلك، تتزايد إنتاجية هؤلاء، رغم أن غالبية الدعم يذهب إلى الشركات الزراعية الكبرى، سواء عبر مئات آلاف الأفدنة التي تحصل عليها بدون مقابل أو بأثمان زهيدة، في حين أن المزارع البسيط لا يستطيع النفاذ إلى الأراضي الجديدة بالأسعار والتسهيلات نفسها التي تحصل عليها تلك الشركات، بل في المقابل يواجَهون باحتقار وتنمّر بعض الكائنات الريعية في المدن، ومن مسؤولين عنصريين يرون أبناء المزارعين غير مؤهلين للالتحاق بالمؤسّسات السيادية، أو الدراما التي ترى عملهم هذا غير ضروري وحقيرا. وتسيّر السياسات الأمور بمنطق شراء العبد خير من تربيته، ليكتشف المصريون لاحقا كارثية هذه السياسة عبر عقود عند مواجهة مصيرهم في استيراد اللحوم والحبوب والزيوت والأقطان بعشرات مليارات الدولارات في ظل أزمة عملة حادّة.

سياسات تغذي الرغبة في الهجرة والهروب من الواقع الأليم في الداخل، تعمل ضد أي آمال في الخلاص من هذا الوضع

ترى هذه الحكومات المتعاقبة على مدار عقد المصريين سببا لكل أزمة ولكل فشل، سواء عبر الزيادة السكانية وغيرها، لتكشف تقاريرها هي نفسها أن معدل الزيادة السكانية في مصر، وفقا للبنك الدولي، انخفض خلال العقد الماضي من 2.3% سنوياً في العام 2014 إلى 1.7% في العام 2021، أي أننا أمام أكبر انخفاض في معدّل الزيادة السكانية في أقلّ من عقد منذ بداية الستينيات، أي أنه حتى لم تعد لدى المصريين رغبة ولا قدرة مادّية على الإنجاب كما في السابق، لكن هذه الحكومات، كما سبقت الإشارة، لا تقرأ تقاريرها كي تذهب وتقرأ تقارير البنك الدولي الذي تمدّه هي بالبيانات طوعا وكرها.
تستمرّ الحكومة في اتهام المصريين بأنهم لا يلتزمون بالقوانين، ولا يعملون بجد، بينما يعمل المصريون أنفسهم في بلدان الخليج وأوروبا بمنتهى الجدّية، وتكاد تكون الجريمة وسط هؤلاء في حدودها الدنيا، فما الذي اختلف، غير أن في هذه البلدان أنماطا من الحكم الرشيد والحوكمة وحكم القانون، بينما في الداخل لا يُراد لأي منطق غير منطق الغابة أن يسود، وأن يكون البقاء للأقوى والأكثر سلطة والأقرب للسلطة، بل وللفاسدين ممن تتزاوج لديهم السلطة بالثروة، فلا يأمل أحدٌ أن يحصل على حقّه بالقانون.
المؤسف أن سياسات النظام المصري نفسه، عبر العقد الماضي، ورغم استفادته بشكل كبير من تحويلات المصريين في الخارج، والتي تضاعفت عدّة مرات منذ ثورة يناير، تكاد تكون أغلقت أسواقا أمام العمالة المصرية في الخارج، وأساءت عديد من تصريحاته وتصريحات وزرائه وإعلامه للمصريين في الخارج وللدول المضيفة. وتضاعفت كلفة سفر المصريين بسبب سياساته، سواء لانهيار قيمة العملة، وبالتالي عدم كفاية مدّخرات العائلات والأفراد للحصول على تأشيرات سفر وعقود عمل في الخليج تكاد تصل إلى ربع المليون جنيه في بعض البلاد، بل إن كل الرسوم والمعاملات القنصلية تضاعفت عدّة مرات في السنوات الخمس الأخيرة فقط إلى الحد الذي يجعلها الأعلى عالمياً، ومن دون تطوّر في الخدمة أو تقصير لوقتها، أي أن هذه السياسات التي تغذّي الرغبة في الهجرة والهروب من الواقع الأليم في الداخل، تعمل ضد أيّ آمالٍ في الخلاص من هذا الوضع بالسفر إلى الخارج الذي أصبح حلماً أشبه بالمستحيل للشباب في مقتبل العمر.