مخاطرة محسوبة خطأً

مخاطرة محسوبة خطأً

02 مارس 2024
+ الخط -

صباح يوم السبت السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي انطلقت عملية طوفان الأقصى، فاجأت الإسرائيليين وكبّدتهم خسائر فادحة، بشرياً ومادّياً ومعنوياً. وقد تجلى من خلال تلك العملية الإعداد والتخطيط المبهران من كتائب الشهيد عزالدين القسام، الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وكتائب مقاومة أخرى. لقد انقضّ المقاومون، بعد اختراق الجدار العازل، على مستوطنات غلاف قطاع غزّة، ونحو المدن القريبة شرقها وشمالها، كما نحو مكان "حفل نوفا"، فقتلوا وأصابوا كثيرين ودمّروا منازل ومركبات كثيرة، إضافةً إلى قواعد وآليات عسكرية. كما أسروا نحو مئتين من الإسرائيليين (وغيرهم)، مدنيين وعسكريين، رجالاً ونساء، أطفالاً وكبارًا، ما زال بعضهم محتجزين في قطاع غزّة فوق الأرض أو في أنفاق تحتها. وفي ردّها على "طوفان الأقصى"، وتحت شعار الدفاع عن النفس وحماية البيت وأهله، أعلنت حكومة إسرائيل الحرب على قطاع غزّة في عملية عسكرية ثأرية وواسعة النطاق حملت اسم "السيوف الحديدية"، تلك العملية التدميرية للبشر والبنيان التي ما زالت على أشدّها.

أمًا الأهداف آلتي أراد قائد حركة حماس في قطاع غزّة، يحيى السنوار، ورفاقه وشركاؤه في اتخاذ القرار، تحقيقها من العملية العسكرية فهي معلنة وأخرى غير معلنة. تتلخص الأولى في ثلاثة: فكّ الحصار الشامل والظالم المفروض على قطاع غزّة منذ حوالي 17 عاماً، حصار أفقر البلاد والعباد. تنظيف أو شبه تنظيف السجون الإسرائيلية من السجناء السياسيين/ الأمنيين الفلسطينيين، القدامى منهم والجدد، النساء منهم والأطفال والرجال. ردع الاعتداءات الإسرائيلية على الحرم القدسي الشريف من اليهود المتطرّفين والتي تصاعدت خلال السنوات الأخيرة، وعلى بيت المقدس وأكناف بيت المقدس وأكناف أكنافه، وهو ما حاولت تحقيقه في أثناء هبّة الكرامة في مايو/ أيار من عام 2021. أمًا الأهداف غير المعلنة فهي: فرملة عجلات قطار التطبيع الذي بدأ يتحرّك بين الرياض وتل أبيب، والذي يلقي بظلاله الثقيلة على مكانة القضية الوطنية الفلسطينية في العالمين العربي والإسلامي. قيادة حركة المقاومة الإسلامية النضال الوطني الفلسطيني، بدلاً عن منظمة التحرير الفلسطينية، وليس إلى جانبها أو بالشراكة الثانوية لها، وهو ما كانت تستدرج إليه سابقاً. ... غنيٌّ عن القول إن تحقيق الأهداف المذكورة، ما عدا الأخير منها، يحظى بقبول الفلسطينيين والتفافهم، على مختلف مشاربهم السياسية وفي مختلف مواقع وجودهم.

من خطّط لعملية طوفان الأقصى وأشرف على تنفيذها لم يتوقع، ولم يأخذ بالحسبان، بجدّية، ذلك المستوى الجنوني من ردّ فعل حكومة إسرائيل

ولكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، فمن خطّط لعملية طوفان الأقصى وأشرف على تنفيذها لم يتوقّع، ولم يأخذ بالحسبان، بصورة جدّية، ذلك المستوى الجنوني من ردّ فعل حكومة إسرائيل. كما لم يتوقع، ولم يأخذ بالحسبان بجدّية، ذلك المستوى من الدعم لها من الولايات المتحدة ورئيسها، كما من حكومات دول أوروبا الغربية المؤثرة ورؤسائها. لقد توقّع السنوار ورفاقه وشركاؤه في اتخاذ القرار، على الأرجح، عملية عسكرية إسرائيلية واسعة، تفوق، فيما تؤدّي إليه من التدمير والضحايا، جميع العمليات السابقة، وخصوصاً عملية الرصاص المسكوب، المدمّرة عام 2014، وهذا ما أعدّوا له جيّداً. ولكنهم لم يتوقّعوا، في اعتقاد الكاتب، أن تعلن حكومة إسرائيل تلك الحرب الثأرية والوحشية التي لا تستهدف تقويض القدرات العسكرية للمقاومة الإسلامية فقط، وإنما أيضاً أرواح سكّان القطاع ومقدّراتهم ومقوّمات وجودهم. كما أنهم لم يتوقّعوا ذلك القدر من الدعم السياسي والعسكري والمالي من الإدارة الأميركية ورئيسها، والذي وصل إلى حد الشراكة في إدارة الحرب وتمويلها. وفي المقابل، لم يتوقّعوا ذلك القدر من التخلّي من أنظمة الحكم في بلاد العرب والمسلمين (ما عدا دول "محور المقاومة"). وإضافة، يبدو أن المقاومة الإسلامية قد حسبت خطأً عواقب تلك المخالفات/ الانتهاكات التي رافقت عملية طوفان الأقصى، والتي تمثلت في اعتداء غير مبرّر على منازل ومرافق مدنية وعلى مدنيين إسرائيليين، خصوصاً النساء والأطفال وكبار السن منهم.

ولم تكن المخاطرة المحسوبة خطأً، أو غير المحسوبة جيداً، من نصيب المقاومة الإسلامية وحدها، فرئيس حكومة إسرائيل وقادة جيشها وأجهزتها الأمنية الأخرى كانوا بدورهم ضحايا مخاطرة محسوبة خطأً، في صلبها الاعتقاد أن "حماس" مردوعة، وبالتالي، لا تجرؤ على اختراق الجدار الفاصل واجتياح مستوطنات غلاف غزّة. كانوا أسرى ما سماها المفكر الإنكليزي فرانسيس بيكون، قبل أربعة قرون ويزيد، "أصنام الفهم البشري"، ففسّروا ما رأته الأعين وسمعته الآذان ورصدته المجسّات الإلكترونية عشية 7 أكتوبر بما يتوافق مع تصوّراتهم وقناعاتهم المسبقة حول مصالح حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وقدراتها وأولوياتها، فكان ما حدث صباح يوم 7 أكتوبر مفاجئاً وصاعقاً لهم. والعبرة: نتيجة للمخاطرة المحسوبة خطأً من حكومة إسرائيل ورئيسها وأجهزتها الأمنية دفع الإسرائيليون ثمناً باهظاً في الأرواح والممتلكات وقوة الردع؛ ونتيجة للمخاطرة المحسوبة خطأً من حركة المقاومة الإسلامية وقادتها يدفع الفلسطينيون سكّان القطاع أقسى الأثمان وأقصاها، أثمان أوصلت إلى اتهام حكومة إسرائيل من حكومة جنوب أفريقيا بشبهة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، أم الجرائم، لدى محكمة العدل الدولية في لاهاي.

ما تعرّض ويتعرّض له الفلسطينيون الغزّيون كارثة تفوق في هولها نكبة 1948، حملت اسم جريمة الإبادة الجماعيه أو غيره من أسماء جرائم الحرب

على ضوء ما قيل أعلاه عن أهداف عملية طوفان الأقصى، المعلنة منها وغير المعلنة، التي أطلقتها كتائب عزّ الدين القسام، وعن الحرب الانتقامية المدمّرة التي تميّز بها ردّ الفعل الإسرائيلي، وكذلك عن المخاطرة المحسوبة خطأً، أو غير المحسوبة جيدّاً، من كل من الطرفين المتحاربين، يتّضح بجلاء أن ما نحن بصدده أو في خضمه مواجهة عسكرية دموية وتدميرية بين حكومة إسرائيل والمقاومة الإسلامية في قطاع غزّة أساساً. ما نحن بصدده أو في خضمه، بكلمات أخرى، ليس تلك المنازلة الكبرى الموعودة، أو أمً المعارك، بين حكومة إسرائيل ومحور المقاومة الذي تقف إيران على رأسه. ولا أعتقد أن خطر الانزلاق إلى مثل هذه المنازلة الكبرى محتمل (لا أقول مستحيلًا). أقول هذا من دون التقليل من أهمية الإسناد العسكري الذي يقدّمه كل من حزب الله في لبنان القريب وحركة أنصار الله في اليمن البعيد، ومن دون التقليل من أهمية الدعم الذي قدّمته إيران الإسلامية في المجالات العسكرية والتكنولوجية والمالية. ولكن الدعم أو الإسناد، على أهميته، غير الشراكة التامة في المواجهة العسكرية وتبعاتها. وفي هذا الصدد، أميل إلى تصديق ما قاله أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، في أحد خطاباته في أثناء الحرب، إنه لم يكن على علم مسبق بموعد انطلاق عملية طوفان الأقصى أو بالتخطيط لها أو بأهدافها المحدّدة.

وختاماً، وصلت أمور الحرب إلى ما وصلت إليه بعد مرور 21 أسبوعًا على اندلاعها. الخسائر الإسرائيلية، البشرية والمادية والمعنوية، هائلة، وتفوق في هولها خسائر أي مواجهة أو حرب سابقة بين إسرائيل والفلسطينيين بعد نكبة 1948. ولكن الخسائر الفلسطينية في قطاع غزّة مروّعة (أقل ما يقال)، فعدد القتلى والجرحى الغزّيين، عدا آلاف القتلى المفقودين، وعدا من مات بسبب نقص الغذاء والدواء، يتجاوز المائة ألف، وعدد النازحين يتجاوز المليون ونصف المليون، ونسبة المباني السكنية المدمّرة كليّاً أو جزئيّاً تتجاوز الثلثين. هذا كله إضافةً إلى تدمير مئات من المدارس والمراكز الطبية والمساجد والمرافق الخدمية، وحرمان سكّان القطاع من الحد الأدنى من الغذاء والدواء والوقود والماء الصالح للشرب. علماً أن شبح التهجير القسري أو القسري/ الطوعي من رفح إلى شبه جزيرة سيناء لا يكفّ عن التحليق في تلك السماء. وباختصار، ما تعرّض ويتعرّض له الفلسطينيون الغزّيون حقًاً كارثة تفوق في هولها نكبة 1948، حملت اسم جريمة الإبادة الجماعيه أو غيره من أسماء جرائم الحرب. وإذا كان الأمر كذلك، من واجبنا الأخلاقي الأساسي، والأولوي زمنيّاً ومنطقيّاً، أفراداً كنا أو جماعات أو دولاً أو محافل إقليمية أو دولية، أن نعمل ما يلزم وما أمكن، وبالوسائل المتاحة والمشروعة، وعلى عجل، لوقف هذه الحرب الثأرية، القذرة والمدمّرة، وإغاثة منكوبيها وإعادتهم إلى ما تبقّى من بيوتهم بعد إعادة تأهيلها، وقبل أن يفوت الأوان: قبل أن يصبح التهجير المُرعب إلى شبه جزيرة سيناء واقعاً!

560FC10B-CDDA-4D79-8111-45AEBE6BD3AB
560FC10B-CDDA-4D79-8111-45AEBE6BD3AB
سعيد زيداني

كاتب وباحث فلسطيني. أستاذ للفلسفة في جامعة القدس المحتلة، نال الدكتوراة من جامعة ويسكونسين في الولايات المتحدة، عام 1982، عمل سنوات أستاذا في جامعة بير زيت، له دراسات ومقالات عديدة عن الخيار الديمقراطي وحقوق الإنسان.

سعيد زيداني