مجلس الأمن وسد النهضة: حدود الدور

مجلس الأمن وسد النهضة: حدود الدور

19 يوليو 2021

من أعمال البناء في سد النهضة الإثيوبي (26/12/2019/ فرانس برس)

+ الخط -

مجلس الأمن الدولي أحد الأجهزة الرئيسية التي تقوم عليها منظمة الأمم المتحدة، منذ تأسيسها في عام 1945، ويُعهد إليه بمهام حفظ السلم والأمن الدوليين. ويتكون من 15 عضواً، يتوزعون بين خمس دول دائمة العضوية (الولايات المتحدة، الصين الشعبية، روسيا الاتحادية، بريطانيا، فرنسا) وعشر دول غير دائمة العضوية، تُختار كل عامين وفقاً للأقاليم الجغرافية الأساسية في العالم. وأمام الأهمية المحورية له ضمن منظومة الأمم المتحدة، فقد تناولت تكوينه وإجراءاته ومهامه وأدواره في ثلاثة فصول من ميثاق الأمم المتحدة (السادس، السابع، الثامن).

تعرّض مجلس الأمن لقضية سد النهضة الإثيوبي المتنازع عليه بين كل من إثيوبيا (دولة المنبع لنهر النيل) والسودان ومصر (دولتي المصب)، في جلستين: الأولى في 29 يونيو/ حزيران 2020، مع إعلان الملء الأول للسد، والثانية في 8 يوليو/ تموز الجاري (2021)، مع إعلان الملء الثاني للسد. ومع ما شهدته الجلستان من مناقشات، وما خلصت إليه من نتائج ومواقف، سواء بين الدول الأعضاء في المجلس أو بين الدول الأطراف في الأزمة، أو عبر المنظمات الإقليمية ذات الصلة (الاتحاد الأفريقي، وجامعة الدول العربية)، برز السؤال المهم عن حدود دور المجلس في التعاطي مع أزمة سد النهضة، وإلى أي مدى يمكن أن يساهم في احتوائها، ومنع تفاقمها، أو العكس. وسعياً للإجابة عن هذا السؤال، يمكن التمييز بين مجموعتين أساسيتين من المحدّدات الأساسية التي تحكم هذا الدور وتؤثر فيه:

المحدّدات القانونية

ترتبط المحددات القانونية بالنصوص الرسمية، وخصوصاً ميثاق الأمم المتحدة، وتحديداً في فصوله ذات الصلة بالمجلس، ولا سيما الفصلان السادس والسابع من الميثاق. فالمادة الـ 34 تنص على أن على "مجلس الأمن أن يفحص أي نزاع أو أي موقف قد يؤدي إلى احتكاك دولي أو قد يثير نزاعاً لكي يقرر ما إذا كان استمرار هذا النزاع أو الموقف من شأنه أن يعرض للخطر حفظ السلم والأمن الدولي". إلا أن هذا الفحص، إذا كان تحت الفصل السادس من الميثاق، فإنه محكوم بعدة اعتبارات، من بينها:

1ـ حل المنازعات سلمياً، وهو ما نصت عليه المادة 33 من الميثاق، والتي حدّدت أدوات التسوية السلمية السياسية والقانونية للنزاعات الدولية، حيث نصت في الفقرة الأولى على: "يجب على أطراف أي نزاع من شأن استمراره أن يعرض حفظ السلم والأمن الدولي للخطر أن يلتمسوا حله بادئ ذي بدء بطريق المفاوضة والتحقيق والوساطة والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية، أو أن يلجأوا إلى الوكالات والتنظيمات الإقليمية أو غيرها من الوسائل السلمية التي يقع عليها اختيارها". ونصّت في الفقرة الثانية على: "يدعو مجلس الأمن أطراف النزاع إلى أن يسووا ما بينهم من النزاع بتلك الطرق إذا رأى ضرورة ذلك".

ما يصدر عن المجلس تحت الفصل السادس هو توصيات غير ملزمة، وليس قرارات

2ـ ما يصدر عن المجلس تحت هذا الفصل، توصيات غير ملزمة، وليس قرارات، وبالتالي يخضع الأخذ بها والتزام التطبيق أو عدم التطبيق لإرادات أطراف الأزمة، وهو ما نصّت عليه حرفياً المادة الـ 36 من الميثاق، فذكرت في فقرتها الأولى: "لمجلس الأمن، في أية مرحلة من مراحل نزاع من النوع المشار إليه في المادة الـ 33، أو موقف شبيه به، أن يوصي بما يراه ملائماً من الإجراءات وطرق التسوية"، وأكدته المادة الـ 38 التي نصت على أنّ "لمجلس الأمن - إذا طلب إليه جميع المتنازعين ذلك - أن يقدم إليهم توصياته بقصد حل النزاع حلاً سلمياً، وذلك بدون إخلال بأحكام المواد من 33 إلى 37".

أما إذا انطلق مجلس الأمن في تعاطيه مع الأزمة تحت مظلة الفصل السابع من الميثاق، فإنه محكوم باعتبارات أخرى، تختلف عن الواردة في الفصل السادس، من بينها:

1ـ ما يصدر عن المجلس تحت هذا الفصل هو قرارات ملزمة لكل الأطراف المباشرة وغير المباشرة في الأزمة، وهو ما نصت عليه المادة الـ 39 من الميثاق، حيث ذكرت: "يقرّر مجلس الأمن ما إذا كان قد وقع تهديد للسلم أو إخلال به أو كان ما وقع عملاً من أعمال العدوان، ويقدم في ذلك توصياته أو يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير طبقاً لأحكام المادتين 41 و42 لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه".

2ـ التدرّج في إدارة الأزمة، بين ثلاثة مستويات أساسية، الأول: التدابير المؤقتة، وهو ما نصت عليه المادة الـ 40 من الميثاق: "منعاً لتفاقم الموقف، لمجلس الأمن، قبل أن يقوم توصياته أو يتخذ التدابير المنصوص عليها في المادة 39، أن يدعو المتنازعين للأخذ بما يراه ضرورياً أو مستحسناً من تدابير مؤقتة، ولا تخلّ هذه التدابير المؤقتة بحقوق المتنازعين ومطالبهم أو بمركزهم، وعلى مجلس الأمن أن يحسب لعدم أخذ المتنازعين بهذه التدابير المؤقتة حسابه". الثاني: التدابير العقابية، الاقتصادية والسياسية، التي تضمنتها المادة الـ41 من الميثاق، والتي نصّت على أنّ "لمجلس الأمن أن يقرّر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته، وله أن يطلب إلى أعضاء "الأمم المتحدة" تطبيق هذه التدابير، ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات، وقفاً جزئياً أو كلياً وقطع العلاقات الدبلوماسية". الثالث: التدابير العسكرية، الجوية والبحرية والبرية، وهو ما تناولته المادة الـ 42 من الميثاق، التي نصّت على أنه "إذا رأى مجلس الأمن أن التدابير المنصوص عليها في المادة 41 لا تفي بالغرض، أو ثبت أنها لم تفِ به، جاز له أن يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرّية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدولي، أو لإعادته إلى نصابه. ويجوز أن تتناول هذه الأعمال المظاهرات والحصر والعمليات الأخرى بطريق القوات الجوية أو البحرية أو البرّية التابعة لأعضاء الأمم المتحدة".

3ـ الإقرار بحق الدفاع الشرعي عن النفس للدول الأطراف في الأزمات الدولية محل الاهتمام، وهو ما نصّت عليه المادة الـ51 من الميثاق، التي ذكرت أن "ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء "الأمم المتحدة"، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي، والتدابير التي اتخذها الأعضاء استعمالاً لحق الدفاع عن النفس تبلغ إلى المجلس فوراً، ولا تؤثر تلك التدابير بأي حال فيما للمجلس - بمقتضى سلطته ومسؤولياته المستمرة من أحكام هذا الميثاق - من الحق في أن يتخذ في أي وقت ما يرى ضرورة لاتخاذه من الأعمال لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه".

اتسم الموقف الإثيوبي بالثبات والوضوح والاستقرار على المواقف، مقابل تضارب في الموقفين المصري والسوداني

4ـ طريقة التصويت على اتخاذ القرارات داخل المجلس، التي تناولتها المادة الـ27 من الميثاق، وجاءت على النحو الآتي: (ف 1) يكون لكل عضو من أعضاء مجلس الأمن صوت واحد، (ف 2) تصدر قرارات مجلس الأمن في المسائل الإجرائية بموافقة تسعة من أعضائه. (ف 3) تصدر قرارات مجلس الأمن في المسائل الأخرى كافة بموافقة أصوات تسعة من أعضائه يكون من بينها أصوات الأعضاء الدائمين متفقة، بشرط أنه في القرارات المتخذة تطبيقاً لأحكام الفصل السادس والفقرة 3 من المادة 52 يمتنع من كان طرفاً في النزاع عن التصويت".

ويشير نص الفقرة الثالثة إلى ما يعرف بحق الفيتو (النقض) الذي تتمتع به الدول دائمة العضوية في المجلس، والذي يحول استخدامه من أي دولة منها دون فاعلية المجلس في مواجهة العديد من الأزمات التي تهدد السلم والأمن الدوليين، نظراً إلى ارتباط هذا الحق في استخدامه، بالاعتبارات السياسية بالدرجة الأولى.

المحدّدات السياسية

وترتبط هذه المجموعة بدرجة أساسية بأنماط التحالفات والعلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية بين الدول الأعضاء في مجلس الأمن، سواء الدائمة أو غير الدائمة بأطراف الأزمة، وشبكة المصالح الاستراتيجية الثنائية أو الجماعية التي تربط بينها، وكذلك بحجم خضوع كل منها للضغوط والمساومات التي تفرضها عليها بعض الأطراف، سواء المباشرة أو غير المباشرة المرتبطة بالأزمة، وهنا تبرز مجموعة من الاعتبارات الحاكمة:

1ـ الحديث عن نجاح النظام في مصر، بعد انقلاب 2013، في بناء شبكة ضخمة من العلاقات المصلحية والاستراتيجية مع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، إلى الدرجة التي كان يمكنه الرهان عليها في مثل هذا الملف، كان حديثاً غير دقيق إلى حد كبير، لأن هذه الدول أيضاً ترتبط بشبكة واسعة من المصالح الاستراتيجية مع إثيوبيا، وترى فيها القوة الإقليمية القادرة على حفظ السلم والأمن في منطقة شرق القارّة الأفريقية، والقرن الأفريقي، وهي مناطق شديدة الأهمية لهذا الدول، بل إن بعض هذه الدول شريك مساهم بشكل مباشر في مشروع السد، وما يرتبط به من مشروعات.

 لن يستطيع مجلس الأمن إصدار أي قرار تحت الفصل السادس، لأن إثيوبيا تضمن على الأقل فيتو ثلاث من الدول دائمة العضوية

2ـ اتسم الموقف الإثيوبي بالثبات والوضوح والاستقرار على المواقف، بل حتى على المفردات الأساسية التي تضمنها الخطاب السياسي للمسؤولين السياسيين، وحتى الفنيين، في الوقت الذي شهد فيه الموقفان، المصري والسوداني، كثيراً من التضارب، بل والتناقض في أحيان كثيرة، بين القبول بالسد تارة، ثم رفض القبول، وبين التخويف من الملئين، الأول والثاني وعدم التخويف منهما، وبين الحديث عن الفوائد التي يمكن أن تتحقق من السد، والحديث عن الأضرار التي يمكن أن تتعرض لها الدولتان جراء استكمال السد.

3ـ فشل المفاوضَين، المصري والسوداني، في إدارة العملية التفاوضية، من منظور التعاطي مع الأزمة، باعتبارها أزمة سياسية يمكن أن تؤدّي إلى صراع وجودي بين شعوب الدول الثلاث، في مقابل نجاح المفاوض الإثيوبي في تصدير الأزمة أنها فنية، ترتبط بقضايا تنموية وخلافات في الإدارة والتشغيل، بدليل أن ممثل إثيوبيا أمام جلسة مجلس الأمن الثانية (8 يوليو/ تموز 2021) كان وزير الري، وليس وزير الخارجية كما في حالة مصر والسودان.

4ـ الفاعلية الإثيوبية في إدارة شبكات العلاقات العامة، والاستفادة من اللوبيات الداعمة داخل الولايات المتحدة الأميركية، في التأثير بصانع القرار الأميركي، سواء اللوبي الإثيوبي، أو لوبيات الدول الأفريقية، أو بعض الجماعات الممثلة لذوي الأصول الأفريقية في المجتمع الأميركي، وتنظيم فعاليات عديدة (ندوات، مؤتمرات، حشود، تظاهرات) الداعمة للرؤية الإثيوبية، في وقت سقطت فيه هذه الورقة بالمطلق من الطرفين، المصري والسوداني.

5ـ الفاعلية الإثيوبية في تحقيق التعبئة الشعبية خلف قضية السد، والتعاطي معه كأنه رمز للكرامة الوطنية وأعظم المشروعات الوطنية، ووسيلة للالتحام الوطني، وهو ما عزّز من قدرات المفاوض الإثيوبي، في الوقت الذي غاب فيه الشارع في مصر والسودان عن التأثير أو الحركة، بفعل سياسات الإلهاء الداخلي، وسياسات التجاهل والتهوين التي مارسها النظامان السياسيان في الدولتين.

مجلس الأمن لن يكون له أي دور في الدفاع عن الحقوق التاريخية والطبيعية لدولتي المصب، مصر والسودان

6ـ التأثير المركزي لأوراق القوة الأساسية التي اعتمد عليها الطرف الإثيوبي في جلستي مجلس الأمن، وأهم هذه الأوراق أولاً، الاحتجاج الدائم باتفاق إعلان المبادئ الذي وُقِّع بين الدول الأطراف في 23 مارس/ آذار 2015، والذي تعتبره إثيوبيا صكّ الشرعية لما تقوم به من ممارسات. وثانياً، دور الاتحاد الأفريقي، والتركيز المستمر على أنه المخوّل الأول بإدارة الأزمة، مستفيدة من كونها دولة المقر للاتحاد، وتمتلك قدرات تأثيرية كبيرة على الدول الأعضاء فيه، التي يمكن أن تحشدها خلف توجهاتها، وقد نجحت بالفعل في دفع مجلس الأمن، في جلستيه (الأولى والثانية) بشأن السد، لتأكيد محورية الاتحاد الأفريقي ومركزيته في إدارة الأزمة، وردّ الأمر إليه في نهاية كل جلسة.

وعليه، يمكن القول إن مجلس الأمن لن يكون له أي دور في الدفاع عن الحقوق التاريخية والطبيعية لدولتي المصب، مصر والسودان، في هذه الأزمة، لأنه إذا أصدر شيئاً تحت الفصل السادس، فسيكون توصياتٍ غير ملزمة، ولن يستطيع إصدار أي قرار تحت الفصل السادس، لأن إثيوبيا تضمن على الأقل فيتو ثلاث من الدول دائمة العضوية، إن لم تكن تضمن أصوات الدول الخمس دائمة العضوية إلى جانبها من البداية. وهو ما يدفع إلى التأكيد أن ما وصلت إليه الأوضاع حتى تاريخه لم يكن استناداً فقط إلى ما تملكه إثيوبيا من أوراق قوة، أو ما تحاجج به من أسانيد في دفاعها عن مواقفها، لكنه نتيجة طبيعية ومنطقية لسوء إدارة الأزمة من مصر والسودان. هذا من ناحية، وإذا كانت الدولتان تمتلكان بالفعل كثيراً من أوراق القوة التي من شأنها إجبار إثيوبيا على إعادة النظر في توجهاتها الراهنة، فإن النظامين السياسيين في الدولتين يفتقدان الإرادة السياسية اللازمة لتفعيل هذه الأوراق من ناحية ثانية.

A57B9A07-71B2-477E-9F21-8A109AA3A73D
عصام عبد الشافي

باحث وأكاديمي مصري، دكتوراه الفلسفة في العلوم السياسية، يعمل أستاذاً للعلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة رشد التركية، من مؤلفاته: البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه المملكة العربية السعودية (2013)، السياسة الأمريكية والثورة المصرية (2014).