كأس العالم في اليوم التالي

كأس العالم في اليوم التالي

10 نوفمبر 2022

ملصق عن كأس العالم في الدوحة (9/11/2022/فرانس برس)

+ الخط -

بإطلاق صافرة النهاية في المباراة الختامية لكأس العالم، ستبقى في أذهان الناس أجمل الصور عن واحدةٍ من أجمل البطولات، تماماً كمشهد الزهور مع انتهاء فصل الربيع. وحدها ذبابة الحقل لن ترى مساحات البهجة، وستقع على ما يتحاشاه الناس. مثل كل البطولات، لن تخلو من مشكلات، سيتجاوزها المُحب، ويضخّمها الشانئ والحاسد، ويتعامل معها الواقعي والعقلاني بجدّيةٍ لتجنبها مستقبلاً.

في اليوم التالي، سيبدأ حصاد ما زرعته قطر خلال أكثر من عقد، وكل الحملات بالحق والباطل أسهمت في ترويج قطر، بلداً وازناً يزهو بقيمه وهويته وشخصيته الحضارية، ويضع ثروته في خدمة إنسانه وأهدافه العليا، منفتحاً على العالم، معتزّاً بذاته، مرحّباً بالضيف من دون تكلّف وتصنّع واستبدال للقيم والهوية، وإن قبلت بعض الدول من دون ضغط بتبديل قيمها وهويتها سعياً للمال أو المكانة عند دواعش الليبراليين الذين يريدون فرض قيمهم.

وخلال عقد من التحضير، تطورت البنية التحتية في قطر بشكل جعلها من مصافّ الدول الأولى في العالم، شوارع وجسور وحدائق وشواطئ وأرصفة وقطار أنفاق ومطار وخطوط جوية وموانئ، وفوقها منظومات دفاع متعدّدة، تحميها بأفضل سلاح أميركي وبريطاني وفرنسي وإيطالي وتركي. وما لا تراه العين بنية تحتية رقمية للتخزين السحابي، جهّزتها شركتا مايكروسوفت وغوغل لا مثيل لها في المنطقة، ورافق ذلك تطوير في التشريعات العمّالية جعلها من الأفضل عربياً.

نحو نصف سكان الكوكب سيتابعون البطولة، وستبقى في ذاكرتهم أجمل الأهداف، تماماً كما صورة البلد المضيف الذي جعل من ملاعب كرة القدم تحفاً معمارية. سيتذكّر المشجّعون أجمل الصور للعروبة والإسلام، في وجوه الناس وفي سلوكهم وتعاملهم، تماماً كما في متاحفهم وفنونهم ومعمارهم. لا تحتاج مرافعة عن الإسلام أقوى وأجمل من متحف الفن الإسلامي، ولا عن قيمه في العمل والحرية مثل متحف ابن جلمود، ولا توثيقاً لجماليات العالم العربي مثل متحف الفن العربي الحديث الذي يضمّ أكبر مجموعة فنية في العالم العربي.

لن يشاهدوا في قطر دواعش مسلّحين كما رسمتهم صحيفة فرنسية، سيسمعون أجمل أصوات الأذان في أجمل المساجد، سيشاهدون قيم الأسرة الممتدّة التي فقدها الغرب، سيشاهدون فائض الحب والحنان الممتدّ من الجدّ إلى الحفيد في تماسك أسري يحتاجه العالم. قيم الأسرة هي الردّ على غلاة الليبراليين الذين يريدون فرض المثلية وممارسة الجنس في الشارع وغير ذلك.

لن تكون الملاعب فارغةً بسبب الحملات التي شُنّت على قطر. وعلى رأي منظّري الإعلان الغربيين "لا توجد دعاية سيئة"، ولذلك خدمت هذه الحملات قطر أكثر مما ضرّتها، فالوجهات السياحية والاستثمارية في العالم لا ترتبط بمستوى الديمقراطية وحقوق الإنسان، فبلد مثل سنغافورة يشكل قبلة سياحية واستثمارية لا يختلف موقفه من المثلية وحقوق العمّال عن قطر. وهذه الحملات تنتهي بانتهاء كأس العالم. بعده، ستكون قطر قد بنت مكانة أوسع من بلدٍ يمتلك واحداً من أكبر حقول الغاز في العالم، الذي تزداد أهميته يوماً بعد يوم. إضافة إلى ذلك، هي وجهة سياحية واستثمارية ومحطّ أنظار العالم.

بعد كأس العالم، من المهم أن يبدأ نقاشٌ جدّي، بعيداً عن قطر. هل الأخلاق والقيم منظومة عالمية يضعها مجلس أعلى من كهنة الليبرالية؟ هل ثمّة خصوصية؟ أيهما أولوية: الحفاظ على الأسرة أم اتباع الأهواء والنزوات الفردية؟ قطر لم تتقدّم بطلب انضمام إلى الاتحاد الأوروبي، حتى يفرض معاييره القيمية عليها. ولم تستجد حكوماتها فتح أسواق لمنتجاتها. ولم تحاسب أوروبا على ماضيها الاستعماري البغيض. في باريس، يُحتفظ بجماجم المجاهدين الجزائريين وغيرهم في متحف الإنسان، وبرج إيفل حديد جزائري سرقته فرنسا ولم تدفع ثمنه. في المقابل، تستثمر قطر في مصنع حديد في الجزائر، لم تحاسب قطر الغرب على آلافٍ قتلوا بعد أن صدّهم خفر السواحل وأبعدهم عن شواطئ أوروبا، وهو عددٌ يفوق عدد العمّال الذين توفوا في أثناء عملهم في قطر بعد أن تلقوا أفضل عناية طبية.

ستتوقف الحملة على قطر في اليوم التالي، لأن المقصود منها ليس تحسين حقوق الإنسان والعمّال في قطر، وهي بحاجة لتحسين، بقدر ما هو تشويه الإنسان العربي والمسلم، بوصفه كائناً إرهابياً متوحّشاً غير مؤهل لاستضافة احتفال عالمي (كما في رسمة دواعش في الملعب في الصحافة الفرنسية)، ومنتجاً للطاقة بأرخص الأسعار. بالمناسبة، لا نسمع في فرنسا نقاشاً عن العاملين في إنتاج الغاز والنفط؟ من المهم مضاعفة رواتبهم وتحسين ظروف عملهم ورفع أسعار النفط والغاز، حتى لا تتمكّن بلديات فرنسا من عرض شاشات بثّ بطولة كأس العالم.

83B64D8F-BC3E-45BA-96A2-36C353D769E9
83B64D8F-BC3E-45BA-96A2-36C353D769E9
ياسر أبو هلالة

كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.

ياسر أبو هلالة