في نموذج الدوحة ـ أنقرة

في نموذج الدوحة ـ أنقرة

11 ديسمبر 2021
+ الخط -

دعك من الوعاء الخاص الذي تقيم فيه العلاقات السورية الإيرانية، لتجد أن أقوى العلاقات الثنائية في الإقليم (عربياً وفي الجوار) وأوثقها، في كلّيتها وتعدّد صُعُدها، هي القائمة بين قطر وتركيا، فليس عدداً هيّناً 80 اتفاقية تم توقيعها، منذ قام "مجلس التعاون الاستراتيجي" بين البلدين في عام 2014، قبل أن تُضاف إليها 12 اتفاقية جديدة في أثناء زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الدوحة، الأربعاء الماضي، بعد محادثاتِه مع أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد. والملحوظ أن النموّ المضطرد للمبادلات التجارية المتزايدة عاماً بعد آخر (تضاعفت ثلاث مرّات في خمس سنوات)، وأن الزيادة السنوية في حجم الاستثمارات القطرية في تركيا، وكذا التركية في قطر، من حيث مجالات عملها وتنوّعها، يتوازيان مع تشاورٍ سياسيٍّ دائم بين قيادتي البلدين، يتبدّى فيه اتّساع مساحات التوافق بينهما في غير ملفٍّ وشأن في الإقليم، وكذلك مع اضطّرادٍ ظاهرٍ في العلاقات العسكرية والأمنية، فالمعلوم أن الدوحة تستضيف قاعدةً عسكريةً تركيةً بموجب اتفاق تعاون عسكري (يشمل تدريبات وصناعات دفاعية) موقّع في عام 2014، زارها أردوغان في 2017، وهي الوحيدة من نوعها في العالم العربي، كما سبق أن أجرت قواتٌ من البلدين مناوراتٍ مشتركةً في 2015. وتنطوي زيارة أردوغان مقرّ القيادة القطرية التركية (العسكرية) في الدوحة، قبيل مغادرته إلى أنقرة الأربعاء، على ثبات هذه العلاقة الخاصة وفرادتها واستمراريتها. وفي البال أن وصول أول دفعةٍ من الجنود الأتراك إلى القاعدة جرى بعد نحو أسبوعين من اندلاع أزمة حصار الرباعي العربي قطر في يونيو/ حزيران 2017.
وعلى ما قد تُعطيه قوة علاقات التجارة والاقتصاد والاستثمارات والصناعات المشتركة (183 شركة برأسمال قطري تعمل في تركيا، و711 شركة تركية عاملة في قطر)، وعلى ما تؤكّده الاتفاقيات في هذا كله وغيره، يلحظ المتابع المدقّق أن الإمارات هي المستثمر الخليجي الأول في تركيا، وأن حجم التبادل التجاري بينهما بلغ في 2019 نحو 7,4 مليارات دولار، فيما بلغ مع قطر 2,24 في العام نفسه، ما قد يعود إلى محدودية السوق القطري، والإغراء الواسع الذي يمثّله سوق الإمارات للمستثمر التركي. ومن المرتقب بعد الاتفاقيات الموقّعة أخيراً، في أثناء زيارة ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، أنقرة، في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) أن يشهد التحسّن في العلاقات الاقتصادية مع الإمارات تحسّناً مضافاً. سيما وأن أنقرة تعطي أولويةً قصوى للحسابات التجارية والمصالح الاقتصادية، وتحرص على تحييد التأثيرات السياسية عليها، ولا ترى حرجاً من أي نوعٍ في خوض حربٍ عسكريةٍ شرسة، بالوكالة، مع الإمارات في ليبيا، فيما تُخبرنا وكالة الأناضول أن صادراتها من الأسلحة الدفاعية إلى أبوظبي ارتفعت بنسبة 47,7% خلال الثلث الأول من 2021، مقارنة بالفترة نفسها في العام السابق.
يشتهي المواطن العربي أن يشهد لبلدٍ من بلاد العُرب أوطاني، في الراهن التعيس، حيويةً سياسيةً نشطة، مع نجاحاتٍ اقتصاديةٍ ناهضةٍ وقوية (وإنْ مع ارتجاجاتٍ وتراجعاتٍ وحروبٍ على الليرة التركية)، كما التي تحوزها وتُحرزها تركيا. ويشتهي أن يرى ما يماثل العلاقات الوثيقة جدا، على ما هو شاخصٌ أمام الأعين، بين قطر وتركيا، عندما يتكامل فيها المصلحي الاقتصادي مع الأمني والعسكري مع السياسي، لنجد أن الوصف الذي طالما ابتذلته صحافاتٌ محليةٌ في غير قُطرٍ عربي، أنها متميزةٌ العلاقات مع هذا البلد الشقيق أو ذاك، إنما يصدُق، حقاً وفعلاً وبجدّية، على الذي يقوم بين الدوحة وأنقرة، حيث  المجاملات التقليدية والبروتوكولية في سياقها الخاص، فيما تمضي العلاقات إلى آفاقٍ بلا حدود. كم يتمنّى المغربي والجزائري أن يشهدا هذا الحال بين بلديهما، والذي لو أخذت قياداتهما قراراً استراتيجياً شجاعاً باتجاهه لعرفت منطقة المغرب العربي كله نهوضاً استثنائياً. ولكن ها هما البلدان لا يوفّران أسباباً للمماحكة والمكايدة إلا ويزاولانها. وفي الذاكرة أن علاقات تعاونٍ وتكاملٍ وأخوّةٍ استراتيجيةٍ نشطة (دعك من المغامرات الوحدوية التي احترفها معمر القذافي) قامت، في أطوارٍ سابقة، بين الأردن وسورية، بين مصر والسودان، ...، غير أنها كانت موسميةً وظرفيةً ومتعجلةًَ ومرتجلةً، وخرّبتها الشكوك وقلة الثقة ومقادير الريبة الضاغطة. وأكثر ما هو بيّنٌ في الذي بين قطر وتركيا أنه مبنيٌّ على النظر إلى البعيد، وإلى تكامل حقيقي بين السياسة والاقتصاد، وهذا ما لم يتدرّب عليه العرب فيما بينهم بعد.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.